للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مكة بما لم يكونوا يقدّرون، فأقبلوا على الإسلام، ونادى مناد فيهم: «من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يترك في داره صنما إلا حطمه» . ثم بعث جماعة من خزاعة ليصلحوا من العمد المحيطة بالبلد الحرام، مما دلّ أهل مكة على مالها في نفسه من التقديس وما زادهم له حبّا. فلما أخبرهم أنهم خير أمّة يحبّ، وأنه ما كان ليتركهم أو يعدل بهم ناسا لولا أنهم أخرجوه، بلغ تعلقهم به غاية حدوده. وجاء أبو بكر بأبيه، الذي ارتقى أبا قبيس يوم الزحف، يقوده حتى وقف بين يدي النبيّ. فلما رآه محمد قال: هلّا تركت الشيخ بمكانه حتى أكون أنا آتيه فيه! قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحقّ أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. فأجلس النبيّ الشيخ بين يديه ومسح صدره ثم قال له: أسلم. فأسلم وحسن إسلامه. وكذلك أسرت أخلاق النبوّة السامية هذا الشعب الذي كان ثائرا على محمد أشدّ الثورة، والذي أصبح اليوم يجلّه ويقدّسه. وكذلك أسلمت قريش رجالا ونساء وبايعت.

وأقام محمد بمكة خمسة عشر يوما ينظّم خلالها شئون مكة ويفقه أهلها في الدين. وفي هذه الأثناء بعث السرايا للدعوة إلى الإسلام لا للقتال، ولتحطيم الأصنام من غير سفك للدماء. وكان خالد بن الوليد قد خرج إلى نخلة ليهدم العزّى- وكانت لبني شيبان- فلما هدمها خرج إلى جذيمة، فلمّا رآه القوم أخذوا السلاح؛ فطلب إليهم خالد أن يضعوه فإن الناس قد أسلموا. قال رجل من جذيمة لقومه: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد. والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق. قال له قومه: أتريد أن تسفك دماءنا! إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس وما زالوا به حتى وضع سلاحه. عند ذلك أمر بهم خالد فغلوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. فلمّا انتهى الخبر إلى النبيّ رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» . ثم بعث إليهم عليّ بن أبي طالب وقال له:

اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهليّة تحت قدميك. وخرج عليّ ومعه مال أعطاه النبيّ إياه. فلمّا بلغ القوم دفع الدية عن الدماء وعما أصيب من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه، أعطاهم بقية المال الذي بعث به رسول الله احتياطا لرسول الله مما لا يعلم.

وفي الأسبوعين اللذين أقام محمد بمكة عفّى على كل آثار الوثنيّة فيها. ولم ينتقل إلى الإسلام من مناصب البيت الحرام إلا سدانة الكعبة، أقرّها النبيّ في عثمان بن طلحة وأبنائه من بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها لا يأخذها منهم إلا ظالم، وسقاية الحاج من زمزم جعلها لعمه العبّاس.

وكذلك آمنت أمّ القرى ورفعت منار التوحيد ولواءه وأضاءت العالم خلال الأجيال والقرون بنوره الوضّاء.

<<  <   >  >>