«فلمّا فرغ من أمر مسيلمة، في حروب الردّة، كانت مذبحة اليمامة قد أتت على كثير من المسلمين ومن بينهم عدد كبير من خير حفّاظ القرآن، هنالك ساورت عمر المخاوف في أمر الكتاب ونصوصه وما ربما يعلق بها من ريبة إذا أصاب المقدور من اختزنوه في ذاكرتهم فماتوا جميعا. إذ ذاك توجه إلى الخليفة أبي بكر بقوله:
«أخشى أن يستحرّ القتل كرّة أخرى بين حفّاظ القرآن في غير اليمامة من المغازي وأن يضيع لذلك كثير منه.
والرأي عندي أن تسارع فتأمر بجمع القرآن» . وأقرّ أبو بكر هذا الرأي، وأفضى برغبته في إنفاذه إلى زيد بن ثابت كبير كتّاب النبي وقال:«إنك رجل شابّ عاقل ولا نتّهمك. كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتتّبع القرآن فاجمعه» . وإذ كان هذا العمل حدثا غير متوقع فقد اضطرب زيد بادئ الرأي، وخامره الريب في صلاحية الإقدام عليه، بل في مشروعيته. فلم يقم به محمد نفسه ولم يأمر أحدا بالقيام به. على أنه انتهى إلى النزول على ما أبدى أبو بكر وعمر من رغبة ملحّة. وجهد في جمع السور وأجزائها من كل جانب، وحتى لقد جمع ما كان منها على ورق الشجر وعلى الحجر الأبيض وفي صدور الرجال. ويضيف بعضهم أنه جمع كذلك منها ما كان على الورق وعلى الجلد وعلى عظام الكتف والضلع من الإبل والماعز. وظفرت جهود زيد المتصلة خلال سنتين أو ثلاث بجمع هذه المادة كلها وترتيبها على النحو الذي هي عليه اليوم، وعلى النحو الذي كان زيد يتلو عليه القرآن في حضرة محمد فيما يقولون. فلما كملت النسخة الأولى عهد بها عمر إلى صيانة حفصة ابنته وزوج النبي. وظل هذا الكتاب الذي جمعه زيد قائما طيلة خلافة عمر على أنه النص الصادق الصحيح.
«على أن الخلاف لم يلبث أن بدأ في طريقة التلاوة، ناشئا إما عن الخلاف السابق لنسخة زيد، وإما عن تحريف تسرّب إلى النسخ التي نقلت عن نسخته. وفزع العالم الإسلامي لذلك أيّما فزع. فالوحي الذي نزل من السماء «واحد» فأين الآن وحدته؟ ولقد حارب حذيفة في إرمينية وفي أذربيجان ولاحظ اختلاف القرآن عند السوريين عنه عند أهل العراق، فجزع لتعدّد ذلك ولمبلغ ما بينه من خلاف، إذ ذاك فزع إلى عثمان كما يتدخل «ليقف الناس حتى لا يختلفوا على كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى» . واقتنع الخليفة.
وليدفع الضرّ لجأكرّة أخرى إلى زيد بن ثابت وعزّوة بثلاثة من قريش. وجيء بالنسخة الأولى من حيازة حفصة، وعرضت القراآت المختلفة من أنحاء الإمبراطورية، وروجعت كلها بأتم عناية للمرة الأخيرة. ولقد كان زيد إذا اختلف مع زملائه القرشيين رجح صوت هؤلاء أن كان التنزيل بلسان قريش، وإن قيل إن الوحي على سبع لهجات مختلفة من لهجات العرب. وأرسلت نسخ من هذا المصحف بعد تمام جمعه إلى جميع الأمصار في الإمبراطورية، وجمع ما بها من سائر النسخ بأمر الخليفة وأحرق. وردّت النسخة الأولى إلى حيازة حفصة.
«ووصل إلينا مصحف عثمان. وقد بلغت العناية بالمحافظة عليه أنّا لا نكاد نجد- بل لا نجد- أي خلاف بين النسخ التي لا عداد لها، والمنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي الفسيحة. ومع ما أدى إليه مقتل عثمان نفسه بعد ربع قرن من وفاة محمد، من قيام شيع مغضبة ثائرة زعزعت ولا تزال تزعزع وحدة العالم الإسلامي، فإن قرآنا واحدا قد ظل دائما قرآنها جميعا. وهذا الإسلام منها جميعا لكتاب واحد على اختلاف العصور حجة قاطعة، على أن ما أمامنا اليوم إنما هو النص الذي جمع بأمر الخليفة السيء الحظ. والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل ثلاثة عشر قرنا كاملا بنصّ هذا مبلغ صفائه ودقّته. والقراآت المختلفة قليلة إلى حدّ يثير الدهشة. وهذا الاختلاف محصور أكثر أمره في نطق الحروف المتحركة أو في مواضع الوقف، وهذه مسائل أبدعت في تاريخ متأخر، فلا مساس لها بمصحف عثمان.