يبتغون وجهه، وأولئك ختم الله على قلوبهم، فلهم جهنم ولهم سوء الدار.
أفيرى أولئك المستشرقون سمو الجبرية الإسلامية وانفساح مداها؟! وهل يرون فساد ما يزعمونه من أنها تدعو إلى القعود عن السعي أو قبول المذلة أو الرضا بالخضوع لغير الله!؟ ثم هي من بعد تجعل باب الرجاء في مغفرة الله ورحمته مفتوحا دائما لمن تاب وأناب. فما يزعمونه من أنها تدعو المسلم إلى النظر لما يصيبه من خير أو شر على أنه بعض ما كتب الله فيقعد لذلك صابرا محتملا الضرّ والمذلّة، بعيد عن الحقيقة في أمر هذه الجبرية التي تدعو إلى دوام الدأب ابتغاء رضا الله، وإلى عزم الأمر قبل التوكل على الله. فإذا لم يوفق الإنسان للخير اليوم، فليعمل لعله يوفق له غدا؛ وله من دائم الرجاء في الله أن يسدد خطاه وأن يتوب عليه وأن يغفر له، خير حافز إلى التفكير المتصل والسعي الدائب لبلوغ الغاية من رضا الله، إيّاه يعبد وإياه يستعين، منه جل شأنه الهدى، وإليه يرجع الأمر كله.
ما أعظم القوّة التي تبعثها هذه التعاليم السامية إلى النفس! وما أوسع أفق الرجاء الذي تفتحه أمامها! فأنت موفق للخير ما ابتغيت بعملك وجه الله. وأنت إن أضلك الشيطان مقبولة توبتك ما غالب عقلك هواك فغلبه وعاد بك إلى الصراط المستقيم. والصراط المستقيم هو سنة الله في خلقه، سنة نهتدي إليها بقلوبنا وعقولنا، وبتفكيرنا فيما خلق الله، وبدأبنا في السعي لمعرفة أسراره. فإذا ظلّ من الناس بعد ذلك من يشرك بالله، ومن يبغي الفساد في الأرض، ومن يعميه الإستئثار عن كل معنى من معاني الأخوة، فإنما هو المثل الذي يضربه الله للناس ليروا عاقبة أمر الله فيه لتكون لهم العبرة من مثله. وهذا عدل الله في الناس ورحمته بهم جميعا، لا يحول دونهما ولا يحدّ منهما أن يضلّ ضال فيناله العذاب جزاء ما قدمت يداه.
ولكن! لماذا يفكر الناس ولماذا يعملون والموت لهم بالمرصاد، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؟ ولماذا يفكر الناس ولماذا يعملون وقد كتب للسعيد منهم أن يكون سعيدا وعلى الشقي منهم أن يكون شقيّا؟ هذا تكرار للسؤال الذي أجبنا عنه سقناه قصدا، لننظر في مسألة كتاب الأجل من ناحية أخرى: فما كتب الله إنما هو سنّة الكون من قبل أن يبرأ الكون، ومن قبل أن يقول له كن فيكون، ولا أدلّ على دقة هذا التصوير من قوله تعالى:(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) . ومعنى هذا أن الرحمة صفة لله وسنّة من سننه في الكون وليست فرضا فرضه على نفسه؛ فالفرض لا يجوز عليه جلّ شأنه. ويقول الله تعالى:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) . فإذا ضلّ قوم لم يبعث الله لهم رسولا قضت سنّة الله ألا يعذّب منهم أحدا. وعلم الله باثار سنته في الكون بديهيّ لكل من آمن بأن الله هو الذي خلق الكون. فإذا بعث الله لقوم رسولا ثم قضت سنّة الكون ومشيئة الله فيه أن يصرّ إنسان من هؤلاء القوم على الضلال بعد إذ دعي إلى الهدى، فإساءته على نفسه وهو لغيره عبرة ومثل.
ومن السذاجة القول بأن هذا الذي ضلّ فجوزي بضلاله قد ظلم ما دام الضلال قد كتب عليه. نقول من السذاجة بدل أن نقول من التجديف؛ لأن أبسط قسط من التفكير يهديناا إلى أن من ضلّ يظلم نفسه ولا يظلمه الله. وقد يكفينا في بيان ذلك مثل الأب البار العطوف يدني النار من طفله، فإذا أراد أن يمسكها بعد بها عنه مشيرا إليه أنها تحرقه. ثم هو يدنيها منه مرّة بعد مرة، ولا بأس بأن تحترق إصبع الطفل كي يكون له من حسه الذاتي ما ينبهه إلى الحقيقة الملموسة التي تظل ماثلة أمامه طيلة حياته. فإذا أقدم بعد رشاده فأمسك بالنار أو ألقى بنفسه فيها فجزاؤه ما يصيبه منها، ولا تثريب على أبيه، ولا يطلب أحد إلى هذا الأب أن يحول بينه وبينها. كذلك مثل الأب الذي يدل ابنه على مضرّة القمار أو الخمر، فإذا بلغ الابن رشاده واجترح ما نهاه عنه أبوه فأصابه الشر لم يكن أبوه ظالما إياه، وإن كان في مقدوره أن يحول بينه وبين ما يصنع. وأبوه أبعد عن ظلمه