العباس- وكان من أكثر بني هاشم يسارا-: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة: فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه» ...
وكفل العباس جعفرا وكفل محمد عليّا، فلم يزل معه حتى بعثه الله. وفيما محمد وخديجة يصليان يوما دخل عليهما عليّ مفاجأة، فرآهما يركعان ويسجدان ويتلوان ما تيسّر مما أوحاه الله يومئذ من القرآن. فوقف الشابّ دهشا حتى أتما صلاتهما، ثم سأل: لمن تسجدان؟ فأجابه محمد- أو كما قال-: إنما نسجد لله الذي بعثني نبيّا وأمرني أن أدعو الناس إليه. ودعا محمد ابن عمه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دينه الذي بعث نبيّه به، وإلى إنكار الأصنام من أمثال اللات والعزّى، وتلا محمد ما تيسّر من القرآن، فأخذ عليّ عن نفسه، وسحره جمال الآيات وإعجازها واستمهل ابن عمه حتى يشاور أباه. ثم قضى ليله مضطربا، حتى إذا أصبح أعلن إليهما أنه اتبعهما من غير حاجة لرأي أبي طالب وقال:«لقد خلقني الله من غير أن يشاور أبا طالب، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبد الله» . وكذلك كان عليّ أول صبي أسلم، ومن بعده أسلم زيد بن حارثة مولى النبي. وبذلك بقي الإسلام محصورا في بيت محمد: فيه وفي زوجته وابن عمه ومولاه. وظل هو يفكر كيف يدعو قريشا إليه وهو يعلم ما هي عليه من شدة البأس وبالغ التعلق بعبادات آبائها وأصنامهم.
وكان أبو بكر بن أبي قحافة التّيمي صديقا حميما لمحمد، يستريح إليه ويعرف فيه النزاهة والأمانة والصدق. لذلك كان هو أول من دعاه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، وأول من أفضى إليه بما رأى وبما أوحى إليه: ولم يتردد أبو بكر في إجابة محمد إلى دعوته وفي الإيمان بها. وأيّ نفس تنشرح للحق تتردد في ترك عبادة الأوثان لعبادة الله وحده؟ وأي نفس فيها شيء من السمو ترضى عن عبادة الله عبادة حجر أيّا كانت صورته؟. أو أيّ نفس تقية تتردد في طهر الثياب وطهر النفس وإعطاء السائل والبر باليتيم؟! وأذاع أبو بكر بين أصحابه إيمانه بالله وبرسوله. وكان أبو بكر رجلا وسيما «مألفا لقومه محبّبا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر. وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته» .
وجعل أبو بكر يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فتابعه على الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، والزّبير بن العوام، ثم أسلم من بعد ذلك أبو عبيدة بن الجراح وكثيرون غيره من أهل مكة.
وكان أحدهم إذا أسلم ذهب إلى النبي فأعلن إليه إسلامه وتلقى عنه تعاليمه. وكان المسلمون الأولون يستخفون لعلمهم بما تضمر قريش من عداوة لكل خارج على أوثانها، فكانوا إذا أرادوا الصلاة انطلقوا إلى شعاب مكة وصلوا فيها. وظلوا على ذلك ثلاث سنوات ازداد الإسلام فيها انتشارا بين أهل مكة، ونزل على محمد فيها من الوحي ما زاد المسلمين إيمانا وتثبيتا.
وكان مثل محمد خير ما يزيد الدعوة انتشارا: كان برّا رحيما، جمّ التواضع كامل الرجولية، عذب الحديث، محبّا للعدل، يعطي كل ذي حق حقه، وينظر إلى الضعيف واليتيم وإلى البائس والمسكين نظرة كلها الأبوّة والحنان والعطف والمودّة. وكان تهجّده وسهره الليل وترتيله ما أنزل عليه ودوام نظره في السموات والأرض وإلتماس العبرة من الوجود كله وكل ما فيه، وفي توجهه الدائم لله وحده، والتماسه حياة الكون كله في أطواء نفسه ودخيلة حياته، مثلا جعل الذين آمنوا به وأسلموا له أحرص على إسلامهم وأشدّ يقينا بإيمانهم، على ما في ذلك من إنكار ما كان عليه آباؤهم واحتمال تعرّضهم لأذى المشركين ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم. آمن