للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والشاهد فيه أن الشاعر: نفى التثقيب عن الجزع تحقيقا للتشبيه، وبيانا لتساوي الطرفين في وجه الشبه، لأن الجزع إذا كان مثقبا خالف العيون في الشكل بعض المخالفة، إذ لا ثقوب فيها.

والثانية: أن تؤخذ جميع الأطراف: بأن يعتبر وجودها جميعها في وجه الشبه كما مر نحو قول الشاعر:

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا

فقد اعتبر في كل من الطرفين: الشكل، والمقدار، واللون، والوضع الخاص- ومثله سائر التشبيهات السابقة.

ومن ابلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قوول ابن المعتز:

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون١

شبه هيئة ظلام الليل، يبدو في ثناياه ضوء الصبح: بهيئة غراب أسود اللون، ذي قوادمن بيض، وإنما روعي أن تكون قوادمه بيضاء لأن تلك القطع م الظلام تقع في حواشيها أطياف من نور، يتخيل منها في مرأى العين شكل قوادم بيض لطائر أسود قائتم السواد، وسر الروعة والجمال في هذه التشبيه: أنهجعل ضوء الصبح -لقوة ظهوره، ودفعه للظلام- كأنه يحفز الدجى، ويستعجلها، ولا يرضى منها أن تتمهل في حركتها، ولما راعى ذلك في التشبيه ابتداء راعاه آخر؟، حيث قال: "نطير غرابا" ليفيد معنى لاسرعة- لأن الطائر إذا كان حاطا في مكان، فأزعج وأطير منه كان ذلك -لا محالة- أسرع لطيرانه، وأدعى لأن يمعن في الطيران، إلى حيث لاتراه العيون- بخلاف ما إذا طار عن اختيار، فقد يجوز أن يبطئ في طيرانه، وليس هذا المعنى مرادا.


١ "القودام" أوائل ريش الطائر، "والجون" بالضم جمع جون بالفتح يطلق على الأبيض والأسود، والمراد هنا الأبيض.

<<  <  ج: ص:  >  >>