للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[مراتب البلاغة]

مما سبق تعلم أن مراتب البلاغة تتفاوت في العلوّ والانحطاط بتفاوت مراعاة تلك الأحوال والمقامات، واعتبار ما يناسبها من المقتضيات والخصائص. فكلما كانت رعاية تلك الأحوال أتم وأوفى كان الكلام أبلغ وأسمى, وكلما كانت تلك الرعاية أقل وفاء كان الكلام أدنى مرتبة، وأقل بلاغة؛ فإذا كنت مثلا تخاطب ذكيا منكرا لحكم من الأحكام وجب -ليكون كلامك أسمى بلاغة، وأدق صياغة- أن تراعي في خطابك ذكاءه وإنكاره معا، فتعطي له من الكلام ما يلائم ذكاءه من الإيجاز، وما يناسب إنكاره من التوكيد, فإذا راعيت ذلك كان كلامك أرفع مكانة، وأسمى مرتبة؛ لأنه أكمل مطابقة لمقتضى حال الخطاب, وإن راعيت في الخطاب معه أحد الأمرين بأن أوجزت ولم تؤكد، أو أكدت ولم توجز كان كلامك أقل بلاغة وأحط مكانة, فإن لم تراع الأمرين جميعا كان كلامك عاطل الجيد من حلية البلاغة، بل كاد يلتحق بأصوات الحيوان.

كذلك إذا كنت تخاطب منكرا إنكارا شديدا وجب أن تراعي قوة إنكاره، فتعطي له من التأكيد ما يتكافأ مع هذا الإنكار الشديد، ومتى راعيت ذلك كان كلامك في المرتبة العليا لأنه أكمل مطابقة، وأتم رعاية, وإن لم تعط له من التأكيد ما يعادل إنكاره بأن كان التأكيد أخف وزنا كان كلامك أحط قدرا، وأهون شأنا, فإن لم تراع إنكاره

<<  <  ج: ص:  >  >>