للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"يا أمير المؤمنين" ولي الثأر محكم في القصاص، "والعفو أقرب للتقوى"، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقك وإن عفوت فبفضلك:

ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه

فخذ بحقك أولا ... فاصفح بفضلك عنه

إن لم أكن في فعالى ... من الكرام فكنه

حتى تنقلب الثورة لطفا، القسوة عطفا، كالصخرة الصماء تفتِّتها ليونة الماء؛ فأنت ترى الألفاظ في المقام الأول تنحدر كما تنحدر الصخور من شواهق، وتراها في الثاني تسيل كما يسيل العذب الفرات سائغا للشاربين.

بل إن لكل كلمة إذا قرنت بأخرى مقاما ليس لها إذا قرنت بغيرها, وإن لنا في القرآن الكريم لخير قدوة في مراعاة مثل هذه الخصائص؛ فها هو ذا يحدثنا، فيقول عز من قائل: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ١ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} فقد عبر في جانب الحسنة بالفعل مصحوبا "بإذا" الموضوعة للجزم والتحقيق؛ لأن المقام مقام جزم ويقين, إذ إن المراد مطلق حسنة بدليل تعريفها بأل الجنسية، ومطلق الحسنة مجزوم بوقوعه, وأتى في جانب السيئة بالفعل مصحوبا "بإن" الموضوعة للشك والتردد؛ لأن المقام مقام شك وعدم جزم بالحصول, إذ إن السيئة بالقياس إلى الحسنة المطلقة نادرة الوقوع، والنادر مما يشك في حصوله ووقوعه.

إلى هنا وضح لك أن للفعل مع "إذا" مقاما ليس له مع "إن"؛ لأن مقامه مع "إذا" الجزم، ومقامه "مع أن" الشك, وهذا هو معنى قولهم المشهور:

"ولكل كلمة مع صاحبتها مقام": أي: لكل كلمة "كالفعل" مع كلمة أخرى مصاحبة لها في تركيب واحد "كإذا" مقام ليس لها مع كلمة أخرى "كان" كما تراه واضحا في الآية الكريمة. ويتجلى لك هذا في قولهم: "إن جاء محمد آتيك، وآتيك إذا احمر البسر"، عبر أولا مع الفعل "بإن"، ثم عبر ثانيا "بإذا" لأن مقام الأول الشك في وقوع المجيء من محمد، ومقام الثاني الجزم بوقوع احمرار البسر؛ ولهذا لا يصح العكس فيه.


١ يريد بالحسنة الخصب والرخاء، وبالسيئة الجدب والبلاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>