للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ما لا بد منه لتحقيقها]

يتبين مما تقدم في طريقة إجرائها أن لا بد لتحقيقها من أمور أربعة:

١- أن يتناسى التشبيه ويجعل كأن لم يكن، ويدعى حينئذ أن المشبه فرد من أفراد المشبه به مبالغة في اتصاف المشبه بوجه الشبه, غير أن التشبيه الذي يجب تناسيه فيها هو الذي ينيت عليه الاستعارة وإذًا فلا مانع من أن تقول: "رأيت أسدا يتكلم مثل الفيل في الضخامة"، فالذي بنيت عليه الاستعارة هو تشبيه الرجل الجريء بالأسد في الجرأة، وهذا هو الذي يجب تناسيه فيها، فتشبيهه بعد ذلك بالفيل لا يضر بالاستعارة؛ لعدم بنائها عليه.

٢- ألا يجمع فيها بين الطرفين أصلا، أو يجمع بينهما على وجه لا يدل على التشبيه، في غير صور التجريد.

فمثال الأول قولك: "لقيت بحرا يعظ الناس"، وقولك: "أظفار المنية نشبت بفلان"، ففي الأول: شبه الواعظ بالبحر في الإفاضة، على ما تقدم في طريقة إجرائها، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه، فالمذكور هو المشبه به فقط وهو "البحر". وفي الثاني: شبهت المنية بالأسد في الاغتيال، ثم استعير تقديرا لفظ الأسد للمنية، ثم حذف ورمز له بشيء من خواصه، وهو "الأظفار" -على ما سيأتي بيانه بعد- فالمذكور هو المشبه لا غير.

ومثال الثاني, وهو ما جمع فيه بين الطرفين على وجه لا ينبئ عن التشبيه قول الشاعر:

لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر١

فلفظ "القمر" في الشطر الثاني من البيت استعارة؛ لأنه مستعار من معناه الحقيقي للإنسان الجميل، بعد إجراء التشبيه بينهما, وقد جمع فيها بين الطرفين؛ المشبه، وهو الضمير في "غلالته"، أو في "أزراره" والمشبه به وهو "القمر"، ولكن على وجه لا يدل على التشبيه؛ لأن سياق الكلام إنما هو لإثبات شيء واقع على القمر وهو زرّ الأزرار، لا لإثبات التشبيه إذ هو مكنون في الضمير، لا يدرك


١ البلى من بلي الثوب إذا فسد, والغلالة: ثوب قصير ضيق الكمين كالقميص يلبس تحت الثوب, وزر القميص عليه: شد أزراره, وبهذا يعلم أن تعدية "زر" إلى الأزرار في البيت فيه ضرب من التسامح.

<<  <  ج: ص:  >  >>