"ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا, وأبسق فرعا، وأحلى جنيا، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا, من علم البيان الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي، وينفث السحر، ويريك بدائع الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذي لولا تحفيه بالعلوم، وعنايته بها، وتصويره إياها لبقيت كامنة مستورة، ولاستمر السرار بأهلتها، واستولى الخفاء على جملتها, إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ولا يحصرها الاستقصاء".
ولو لم يكن لهذه العلوم من سابغ الفضل على ذويها سوى الوصول بهم إلى موضع السر من إعجاز القرآن، وكيف أنه تحدى العرب -وهم ذوو لسن وفصاحة- في أبين سماتهم، وأجل صفاتهم, بما حواه من محكم الصياغة، ورائع البلاغة، وبما تضمنه من جوامع الكلم، وروائع الحكم حتى وقف بنو العروبة، وحاملو لوائها أمامه واجمين، وخَرَّ له أعلام البيان ساجدين, لو لم يكن لها سوى هذا الفضل لكان لزاما على عامة أبناء العربية أن يرتضعوا أفاويقها, وينهلوا من مناهلها، فما ظنك بها وقد تعدى خطرها هذا الأمر.
إنها لتكشف لك عما في الفصحى من كنوز ونفائس لا تقف عند حد, كما تكشف لك عن سر ما لها من فضل التقدم على سائر اللغات حتى نزل بها القرآن الكريم، فوسعته معنى وأسلوبا, على ما فيه من روعة وجلال، فكان ذلك شهادة لها بتبوئها مكان الصدارة، واستوائها على عرش السيادة.
وهل تراك بالغا أعماق القلوب، مالكا زمام العقول -تقويما لعقيدة زائغة، أو إحياء لحق مضيع، أو ردا لشرف مثلوم- بغير معونة هذه العلوم؟ أجل, فرب كلام أقطع من حسام، وأنفذ من سهام.
وأي أثر ذلك الذي تحسه في نفسك عندما يجري على لسانك اللفظ الأنيق ذو المعنى الدقيق، أو تنعكس على براعتك أشعة الخيال