للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خيل إلى الشاعر -لشدة ما يعانيه من ألم الجوى- أن دمعه الهاطل على خده أحمر قانٍ، فشبهه بما في كأسه من الخمر في الحمرة, غير أنه زعم أن الخمر والدمع تساويا في وجه الشبه، بحيث لا يفضل أحدهما الآخر فيه حتى أشكل عليه الأمر، فلم يدر: أكانت عيناه تسكبان خمرا، فكان يشرب خمرا، أم كانتا تسكبان دمعا، فكان يشرب دمعا؟ لهذا عدل عن التعبير بصيغة التشبيه إلى صيغة التشابه المفيدة لمعنى التساوي الذي زعمه, وهذا من باب تجاهل العارف، وإلا فهو يعلم قطعا أنه يحتسي خمرا، وأن عينيه تسحّان دمعا.

ومن هذا البيان يعلم أن في قول أبي إسحاق حذفا من جهتين, وكأنه يقول: أبالخمر أسبلت جفوني "فمن الخمر كنت أشرب؟ "، "أم بالعبرة أسبلت جفوني"، فمن عبرتي كنت أشرب؟ فأنت تراه قد حذف من إحدى العبارتين ما ذكر مقابله من الأخرى، وهو ما يسمى عندهم "بالاحتباك".

غير أن قوله: "فمن مثل ما في الكأس" صيغة تشبيه، وهي تتعارض مع صيغة التشابه في قوله: "تشابه دمعي ... إلخ". ولعل الجواب على هذا أن المراد بالتشابه التساوي في مقدار وجه الشبه, أما التشبيه فباعتبار أن وجه الشبه في المشبه به أعرف وأشهر منه في المشبه, وقد أجيب بغير ذلك.

ونظير قول الصابي قول الصاحب بن عباد:

رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر

وفي هذا الشاهد أيضا ما في الذي قبله من تعارض صيغة التشبيه "في البيت الثاني" المقتضية للتفاوت مع صيغة التشابه "في البيت الأول" المقتضية للتساوي. ويجاب بأن "كأن" هنا للشك، لا للتشبيه بدليل قوله في البيت الثاني: "ولا قدح"، ثم قوله: "ولا خمر"، وذلك أمارة التساوي. وقد يجاب بأن التشبيهين في

<<  <  ج: ص:  >  >>