للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في تلك الأباطح, أسند الفعل المستعار وهو "سالت" إلى الأباطح دون "المطي" الذي حقه أن يسند إليه، فأفاد هذا الإسناد: أن الأباطح امتلأت بالإبل إلى حد يخيل للناظر أن الأباطح هي التي تسيل, إذ إن نسبة فعل الحال إلى المحل تشعر بشيوع الحال في المحل، وكأن كل محل من هذه الأباطح سائر، يماثل ذلك إسناد الجري إلى النهر في قولهم: جرى النهر، فهذا الإسناد يشعر بامتلاء النهر بالماء حتى كأن النهر هو الذي يجري، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أسند الاشتعال الذي هو وصف الشعر إلى محله وهو الرأس؛ إشعارا بأن الاشتعال قد عمه، ولم يبق فيه جزء غير مشتعل على قاعدة أن نسبة الحال إلى المحل تشعر بشيوع الحال فيه.

وإنما أدخل الأعناق في السير إذ جرها بباء الملابسة المقتضية لملابسة الفعل لها؛ لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران -غالبا- في أعناقها. وإذًا فقد أضيف إلى الاستعارة المذكورة مجازان عقليان؛ أحدهما مصرح به، وهو إسناد الفعل إلى الأباطح، والآخر مقدر، وهو إسناده إلى الأعناق؛ لأن مقتضى كون الأباطح في سيرها ملابسة لأعناق المطي أن تكون الأعناق أيضا سائرة, وبإضافة هذين المجازين إليها صارت غريبة طريفة. ومثله قول ابن المعتز:

سالت عليه شعاب١ الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير

فقد استعار السيلان للسير الحثيث السلس، ثم أسند فعله إلى الشعاب إسنادا عقليا صريحا، وأسنده إلى الوجوه إسنادا عقليا مقدرا كما في البيت قبله، وبهذين التصرفين امتنعت الاستعارة بعد ابتذال، واعتزت بعد ضعة.


١ شعاب جمع شعب بكسر الشين, وهو الطريق في الجبل.

<<  <  ج: ص:  >  >>