للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد كنى عن جوده، وكثرة قِراه للأضياف بجبن الكلب، وهزال الفصيل, إذ ينتقل الذهن من جبن الكلب إلى تأديبه ومنه إلى استمرار ما يوجب نباحه، وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ثم ينتقل من هذا إلى كون صاحبه مقصدا للداني والقاصي، ومن هذا إلى أنه يقري الأضياف، ومن قرى الأضياف إلى وصف الجود. كذلك ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقد١ أمه بنحرها، ومنه إلى قوة الداعي لنحرها؛ لكمال عناية العرب بالنوق لا سيما المتليات٢، ومنه ينتقل الذهن إلى إعدادها للطبخ، ومنه إلى أنه مضياف كريم. وسميت هذه الكناية بعيدة؛ لبعد زمن إدراك المقصود منها.

والثانية -وهي المطلوب بها موصوف- ضابطها: أن يصرح بالصفة وبالنسبة، ولا يصرح بالموصوف المطلوب النسبة إليه، ولكن يذكر مكانه صفة، أو أوصاف تختص به كما في قولك: "فلان صفا لي مجمع لبه" كناية عن قلبه؛ فقد صرح في هذه الكناية بالصفة، وهي "مجمع اللب"، وصرح بالنسبة، وهي إسناد الصفا إليها، ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة الصفاء إليه، وهو "القلب"، ولكن ذكر مكانه وصف خاص به وهو "كونه مجمع اللب"، فإن القلب -كما يقولون- موضع العقل والتفكير.

وهذه الكناية أيضا نوعان:

الأول: ما يكون الكناية فيه معنى واحدا كما في المثال السابق: فلان صفا لي مجمع لبه؛ فمجمع اللب المكنى به عن القلب معنى واحد -كما ترى٣- وكما في قول الشاعر:


١ أو إلى أخذ اللبن منها, وتقديمه للضيفان.
٢ هي التي تلاها ولدها أي: تبعها.
٣ ويسمى هذا النوع من الكناية عند أصحاب العلوم العقلية "خاصة بسيطة" لعدم تركبها، ويسميه السكاكي "كناية قريبة" لا بالمعنى السابق, بل بمعنى سهولة المأخذ, وسرعة الانتقال فيها لبساطتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>