للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول: إن الذي أفنى شعره١ وأزاله خصلة بعد خصلة اختلاف الليالي، وتعاقب الأيام، فقد أسند "ميز" إلى "جذب الليالي" وهو -كما ترى- إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه بناء على أنه زمان، له أو سبب فيه, وقرينة المجاز قوله بعد: "أفناه قيل الله للشمس اطلعي" إذ دل ذلك على أن القائل موحد يسند الأمور إلى بارئها, وكقولك: هزم الأمير الجيش وهو في قصره فهو كذلك إسناد مجازي أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له؛ لأن الأمير لم يفعل شيئا، والذي سوغ الإسناد إليه أنه سبب في الهزيمة، والقرينة الدالة على هذا التجوز قولك: "وهو في قصره".

والمعنوية: ألا يكون في الكلام لفظ صارف عن إرادة الظاهر، بل هو أمر خارج عن اللفظ، وذلك أحد أمرين:

الأول: أن يكون قيام المسند بالمسند إليه مستحيلا عقلا، أو عادة فمثال المستحيل عقلا قولك: "محبتك جاءت بي إليك"، فإسناد المجيء إلى المحبة مجاز عقلي أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له بناء على أن المحبة سبب في المجيء، وقرينة المجاز استحالة قيام المجيء بالمحبة عقلا٢ والمراد بالمستحيل عقلا ما كان مستحيلا بالضرورة، وهو ما لو خلى العقل ونفسه لعده محالا على البديهة، ولا يسع أحدا من الناس أن يجيزه.

ومثال المستحيل عادة قولهم: "هزم القائد الجيش" فإسناد الهزيمة إلى القائد مجاز عقلي قرينته استحالة أن يهزم القائد الجيش وحده عادة وإن أمكن عقلا.


١ يحتمل أن يكون ضمير المفعول في "أفناه" عائد إلى شبابه أو إلى نفسه فالمعنى على الأول: أفنى شبابه أي: أطفأ زهرته. وأزال نضرته وعلى الثاني: أفنى ذاته أي: جعله مشرفا على الفناء والعدم.
٢ بناء على ما ذهب إليه المبرد من أن باء التعدية تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في حصول الفعل فمعنى ذهبت بعلي: صاحبت عليا في الذهاب، وعلى هذا فمعنى قولك: محبتك جاءت بي إليك: أن محبتك صاحبتني في المجيء إليك ولا شك أن مجيء المحبة محال.

<<  <  ج: ص:  >  >>