للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وغير الحسي: ما سبق في تشبيه حال اليهود بحال الحمار. فإن وجه الشبه -كما سبق- هيئة الحرمان من الانتفاع بأبلغ نافع، مع معاناة المشاق في تحمله، وهي صورة مركبة من أمور عقلية -كما ترى- ومثله ما تقدم من تشبيه المستجير بعمرو بالمستجير بالنار، فإن وجه الشبه -كما سلف- هيئة مركبة من أمرين لا يقعان تحت حس: هما الفرار من الضار، والالتجاء إلى ما أشد ضررا، طمعا في الانتفاع به- من ذلك قول المعتز الخليفة العباسي:

اصبر على مضض الحسو ... د فغن صبرك قاتله

فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله

فقد شبه الشاعر حال الحسودن وقد قتله كمدا صبر الممدوح عليه, وعدم جزعه لما يناله من أذى: بحال النار، يأكل بعضها بعضا إذا لم تجد وقودا- ووجه الشبه: إسراع الفناء لانقطاع ما فيه مدد البقاء، وهو -كما ترى- أمر عقلين منتزع من أمور عقلية، لا تدخل تحت حس:

ومنه قول صالح بن عبد القدوس:

وإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه

حتى تراه مونقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه

شبه حال من تؤدبه وقت الصبا، فيثمر فيه التأديب- بحال العود يسقى في غرسه، في إبان سقيه، فيورق، وينضر- ووجه الشبه: الوصول إلى الغاية المرجوة، باستصلاح الشيء وتعهده بالرعاية في الوقت المناسب، وهو- كذلك أمر عقلي منتزع من أمور عقلية١.


١ كون وجه الشبه حسيا أو عقليا إنما هو باعتبار مادته المنتزع هو منها وإلا فإن الهيئة المنتزعة أمر اعتباري دائما إذ لا وجود له خارجا.

<<  <  ج: ص:  >  >>