إن الحصر الذي عاش فيه الإنسان؛ له دوره البارز والمهم في تكوين شخصيته وثقافته، ومِن ثَمَّ كان من الضروري على الباحث الذي يقوم بدراسة حياة عَالم من العلماء، أو شخصية من الشَّخصيات أن يدلو بدلوه فَيُسَطِّر -ولو على وجه الإيجاز- عن بعض الجوانب السياسية والعلمية والاجتماعية السائدة في تلك الفترة، وذلك لِيَسْتَخْرِجَ أهم خصائصها ومميزاتها، ومدى تَأثّرِ وارتباطِ تلك الشخصيات بأحداثها ومتغيراتها.
لقد عاش المؤلف الإمام عبد الله بن عبد الحكم منذ منتصف القرن الثاني حتى أوائل القرن الثالث الهجري، أي ما بين: ١٥٠ أو ١٥٥ - ٢١٤ هـ، وذلك في ظل خلافة الدولة العباسية، ومعلوم أن هذه الفترة كانت فترةً خِصْبَةً حيث ترعرع فيها كبار العلماء وفحول المعرفة ممن سجل التاريخ جهودهم المباركة في خدمة العلم على اختلاف أنواعه، كما أنها كانت نقطة انطلاقٍ أصبح عَالَمُ المعرفة بعدها مفتوحًا على مصراعيه بفضل جهود هؤلاء المخلصين، وما غرسوه من النواة الطيبة الثرية لنصرة الإسلام وإعلاء كلمته.
لقد ولد عبد الله بن عبد الحكم في عهد الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، وكانت فترة خلافته بين: ١٣٦ - ١٥٨ هـ وهذا يعني أن المنصور قد مات وابن عبد الحكم في الثالثة أو الثامنة من عمره، ويَعْتَبرُ المؤرخون أن الخليفة المنصور هو المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، مثلَمًا كان عبد الملك بن مروان بالنسبة للدولة الأموية، وقد نشأ المنصور ملمًّا بسير الملوك والأمراء، واعتبره بعض المؤرخين أعظم الخلفاء العباسيين شدة وحزمًا ويقظة واهتمامًا بمصالح الرعية، وكان المنصور -على ما