ومن أهل العلم من حمل أحاديث النهي على العموم، وأحاديث الجواز على الخصوص أي أن الجواز خاص بالنبي ﷺ، وهذا أمر عجيب يكفي بطلانه عن إبطاله، فإن دعوى الخصوصية. لا تثبت إلا بدليل، ولا دليل هنا يعول عليه، وعلى كل حال فقد رد على هذه الفرية وسابقتها -أي ادعاء ابن حزم نسخ أحاديث الجواز- العلامة ابن شاهين في كتابه الناسخ والمنسوخ ١/ ٤٣٣ - ٤٣٤، فقال: وقد صح عن النبي ﷺ أنه شرب قائمًا وأن أصحابه كانوا يشربون قيامًا، والإباحة للشرب قائمًا أقرب إلى أن يكون نسخ النهي، لأنه لو كان النهي ثابتًا أو هو الآخِر من الأمرين لما كان أصحاب رسول الله ﷺ يشربون قيامًا، ولو كان شربه قائمًا له دون غيره لما جاز لأصحابه أن يشربوا قيامًا، لأنهم كانوا يفعلون هذا على عهد رسول الله ﷺ، وهذا أشبه أن يكون ناسخًا للنهي والله أعلم. انتهى. الترجيح: فالذي يترجح لديَّ في المسألة بعد هذا العرض والتحرير، هو: أن يُجْمَع بين الأمرين بأن يحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيان الجواز. أي كأن النبي ﷺ نهى عن ذلك أولًا ثم فعل ليبين للأمة جواز الفعل، وهذا واضح في لفظ حديث السابق وهو حديث: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله ﷺ يشرب قائمًا وقاعدًا، وبذلك نكون قد أعملنا الدليلين على القاعدة المشهورة: إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، والجمع أولى من الترجيح إن أمكن الجمع. وقد تمكنا -بفضل الله- من ذلك، حتى لا تُهدر نصوص ثابتة صحيحة عن الصادق المصدوق ﷺ، وهذه الطريقة التي سلكناها، هي طريقة الإمامين الجليلين: الخطابي وابن بطال كما نقل عنهما الحافظ ابن حجر في فتح الباري ١٠/ ٨٤، ثم عَقَّب الحافظ قائلًا: وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، والله أعلم. (١) المنتقى ٤/ ٣٣٠، والدليل في ذلك حديث أنس بن مالك ﵁: أنَّها حُلِبَتْ لرسول الله ﷺ شاةٌ داجنٌ وهي في دار أنس بن مالك وشِيْبَ لبنُها بماء من البئر التي في دار أنس، فأَعْطَى رسولَ الله ﷺ القدحَ فشرب منه، حتى إذا نزع القدحَ من فيه ............. =