للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلم يقل له شيئا. وهذا من أجل ما كانوا يخاطبونه به!.

وبعث إلى رجل من الأنصار بخمسمائة دينار فاستقلها الأنصاريّ، وقال لابنه: خذها وامض إلى معاوية، فاضرب بها وجهه، وردّها عليه. وأقسم على ابنه أن يفعل ذلك. فجاء ابنه إلى معاوية ومعه الدراهم، قال: يا أمير المؤمنين:

إن أبي فيه حدّة وسرعة. وقد أمرني بكيت وكيت، وأقسم عليّ، وما أقدر على مخالفته. فوضع معاوية يده على وجهه وقال: افعل ما أمرك أبوك وارفق بعمّك.

فاستحيا الصبيّ ورمى بالدراهم، فضاعفها معاوية وحملها إلى الأنصاري. وبلغ الخبر يزيد ابنه، فدخل على معاوية غضبان وقال: «لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يعدّ ذلك منك ضعفا وجبنا» فقال معاوية: «أي بنيّ: إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمّة، فامض لشأنك، ودعني ورأيي» وبمثل هذه السيرة صار خليفة العالم وخضع له من أبناء المهاجرين والأنصار، كلّ من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة. وكان معاوية- رضي الله عنه- من أدهى الدهاة: روي أنّ عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية؟! ومن دهائه ما اعتهده من استمالة عمرو بن العاص. وكان عمرو بن العاص أحد الدهاة، وكان أوّل ما نشبت الفتنة بين أمير المؤمنين عليّ- عليه السّلام- ومعاوية معتزلا للفريقين، فرأى معاوية أن يستميله ويتقوّى برأيه، ودهائه ومكره فاستماله ووصل حبله بحبله [١] وولاه مصر ودخل معه في تلك المداخل، وفعل في صفين تلك الأفاعيل. ولم يكن بينهما مع ذلك مودّة قلبيّة، وكانا يتباغضان سرّا، وربّما ظهر ذلك على صفحات وجوههما. وفلتات ألسنتهما:

طلب أمير المؤمنين- عليه السّلام- في صفّين [٢] من معاوية أن يخرج إلى مبارزته فقال له عمرو بن العاص- رضي الله عنه-: قد أنصفك ولا يحسن بك النكول عن مبارزته فقال له معاوية: غششتني وأحببت قتلي. ألست تعلم أن ابن


[١] وصل حبله بحبله: كناية عن العلاقة والاتّصال.
[٢] صفّين: معركة سبق ذكرها، وقعت بين عليّ وأنصاره من جهة وبين معاوية وأنصاره من جهة أخرى. وأعقبها قبول عليّ للتحكيم مكرها. وكان ذلك عام/ ٣٧/ هـ.

<<  <   >  >>