للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حدّث بعض مواليه قال: كنت مرة واقفا على رأسه فسمع صوتا عاليا، فقال: انظر ما الصّوت؟ قال: فنظرت فإذا هو بعض خدمه يلعب بالطّنبور [١] ، وحوله جماعة من جواريه يضحكن منه. قال: فأخبرته الخبر، فتنمّر وقال:

وأيّ شيء يكون الطّنبور؟ قال: فوصفته له، فقال: وأنت ما يدريك بالطّنبور؟

قلت: يا أمير المؤمنين رأيته بخراسان. فقام المنصور حتّى جاء إلى الخادم، فلما بصر به الجواري تفرّقن فأمر فضرب رأس الخادم بالطّنبور حتّى تكسّر الطّنبور، ثمّ أخرجه فباعه.

وكان المنصور من أشدّ الناس شغفا بابنه المهديّ، فكان إذا جنى أحد جناية أو أخذ من أحد مالا، جعله في بيت المال مفردا وكتب عليه اسم صاحبه، فلما أدركته الوفاة قال لابنه المهديّ: يا بنيّ إنّي قد أفردت كلّ شيء أخذته من النّاس على وجه الجناية والمصادرة، وكتبت عليه أسماء أصحابه. فإذا وليت أنت فأعده على أربابه ليدعو لك النّاس ويحبّوك.

قال يزيد بن عمر بن هبيرة [٢] : ما رأيت رجلا في حرب أو سلم أمكر ولا أنكر ولا أشدّ تيقظا من المنصور. لقد حاصرني تسعة شهور ومعي فرسان العرب، فجهدنا كلّ الجهد حتّى ننال من عسكره شيئا فما قدرنا لشدّة ضبطه لعسكره وكثرة تيقّظه. ولقد حصرني وما في رأسي شعرة بيضاء، ثم انقضى ذلك وما في رأسي شعرة سوداء.

واعلم أنّ المنصور هو الّذي أصّل الدّولة، وضبط المملكة، ورتّب القواعد وأقام النّاموس، واخترع أشياء. فمن جملة ما اخترع: فرس النّوبة، ولم يكن الملوك قبله يعرفون ذلك، وسبب ذلك يأتي فيما بعد. ومن جملة ما اخترع: عمل الخيش الكتّان في الصّيف، ولم يكن الناس قبله يعرفون ذلك. وكان الأكاسرة يطيّنون كلّ يوم من أيّام الصّيف بيتا يسكنونه، ثمّ في الغد يطيّن بيت آخر.


[١] الطّنبور: آلة طرب ذات عنق طويل، تشبه العود المعروف.
[٢] يزيد بن عمر بن هبيرة: كان واليا على العراق لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قتله السفّاح بواسط عام/ ١٣٢/ هـ.

<<  <   >  >>