للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان المنصور مبخّلا يضرب بشحّه الأمثال. وقيل كان كريما: وإنه لمّا حجّ أفضل على أهل الحجاز، فكان يسمّون عامه عام الخصب. والصّحيح أنّه كان رجلا حازما يعطي في موضع العطاء، ويمنع في موضع المنع. وكان المنع عليه أغلب.

وجرى في أيامه شيء طريف: وهو أنّ قوما من أهل خراسان يقال لهم:

الراونديّة كانوا يقولون بتناسخ الأرواح، ويزعمون أنّ روح آدم انتقلت إلى فلان- رجل من كبارهم- وأنّ ربّهم الّذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور وأنّ جبرائيل هو فلان- عن رجل آخر- فلمّا ظهروا أتوا قصر المنصور فطافوا حوله، وقالوا:

هذا قصر ربّنا. فأخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم مائتي رجل، فغضب الباقون واجتمعوا. وفتحوا السّجون وأخرجوا أصحابهم منها، وقصدوا المنصور وحاربوه. فخرج المنصور إليهم ماشيا، ولم يكن في بابه في ذلك الوقت دابّة، فصار بعد ذلك اليوم تربط له دابّة في باب القصر لا تزال واقفة، وصارت تلك سنّة للخلفاء بعده وللملوك. فلما خرج المنصور أتي بدابّة فركبها وهو يريدهم حتّى تكاثروا عليه، وكادوا يقتلونه. وجاء معن بن زائدة [١] وكان مستخفيا من المنصور، جاء متلثما، ووقف بين يدي المنصور والمنصور لا يعرفه فقاتل بين يديه قتالا شديدا وأبلى بلاء حسنا. وكان المنصور راكبا على بغلة ولجامها بيد حاجبه الرّبيع، فأتى معن وقال: تنحّ فأنا أحقّ منك بهذا اللجام في هذا الوقت. فقال المنصور: صدق، ادفع اللجام إليه فلم يزل يقاتل حتّى انكشفت الحال وظفر بالراونديّة، فقال له المنصور: من أنت؟ قال: طلبتك [٢] يا أمير المؤمنين معن بن زائدة. فقال قد آمنك الله على نفسك وأهلك ومالك، ومثلك يصطنع [٣] . وأحسن إليه وولاه اليمن.

والمنصور هو الّذي بنى مدينة بغداد.


[١] معن بن زائدة: قائد شجاع كريم مشهور، كان ولاؤه للأمويين فلما ظهر العبّاسيّون طلبوه وظلّ متخفيا حتى نصر المنصور العباسي في حربه مع الراوندية. ولي على اليمن ثم على سجستان حتى مقتله حوالي عام/ ١٥٠/ هـ.
[٢] طلبتك: مطلوبك للقبض عليه.
[٣] يصطنع: يقرّب ويحسن إليه.

<<  <   >  >>