وقف جعفر بن يحيى على الكتاب علم أنه مزوّر عليه وكان عنده جماعة من ندمائه ونوّابه فرمى الكتاب عليهم، وقال لهم: أهذا خطّي؟ فتأمّلوه وأنكروه كلّهم وقالوا هذا مزوّر، فعرّفهم صورة الحال وأنّ الّذي زوّر هذا الكتاب موجود بمصر عند صاحبها، وأنه ينتظر عود الجواب بتحقيق حاله، وقال لهم: ما ترون، وكيف ينبغي أن نفعل في هذا؟ فقال بعضهم: ينبغي أن يقتل هذا الرّجل حتى تنحسم هذه المادّة، ولا يرجع أحد يتجرّأ على مثل هذا الفعل، وقال آخر: ينبغي أن تقطع يمينه التي زوّر بها هذا الخطّ، وقال آخر: ينبغي أن يوجع ضربا ويطلق حال سبيله وكان أحسنهم محضرا من قال: ينبغي أن تكون عقوبته على هذا الفعل حرمانه، وأن يعرف صاحب مصر بحاله ليحرمه فيكفيه من العقوبة أن قطع هذه المسافة البعيدة من بغداد إلى مصر ثم يرجع خائبا، فلما فرغوا من حديثهم قال جعفر: سبحان الله! أليس فيكم رجل رشيد؟ قد علمتم ما كان بيني وبين صاحب مصر من العداوة والمجانبة، وأنّ كلّ واحد منّا كانت تمنعه عزّة النفس أن يفتح باب الصّلح، فقد قيّض الله لنا رجلا فتح بيننا باب المصالحة والمكاتبة، وأزال بيننا تلك العداوة، فكيف يكون جزاؤه ما ذكرتم من الإساءة؟ ثمّ أخذ القلم وكتب على ظاهر الكتاب إلى صاحب مصر: سبحان الله! كيف حصل لك الشّكّ في خطّي؟ هذا خطّ يدي، والرّجل من أعزّ أصحابي، وأريد أن تحسن إليه وتعيده إليّ سريعا، فإنّي مشتاق إليه محتاج إلى حضوره، فلمّا وصل الكتاب وفي ظاهره خطّ الوزير إلى صاحب مصر كاد يطير من الفرح، وأحسن إلى الرجل غاية الإحسان ووصله بمال كبير، وتحف جميلة، ثم إنّ الرجل رجع إلى بغداد وهو أحسن الناس حالا، فحضر إلى مجلس جعفر بن يحيى، فلما دخل سلم عليه ووقع يقبّل الأرض ويبكي، فقال له جعفر: من أنت يا أخي؟ قال: يا مولانا أنا عبدك وصنيعتك المزوّر الكذّاب فعرفه جعفر وبشّ له وأجلسه بين يديه وسأله عن حاله وقال له: كم وصل إليك منه فقال مائة ألف دينار، فاستقلّها جعفر وقال: لازمنا حتّى نضاعفها لك، فلازمه مدّة فكسب معه مثلها، وما زالت دولة البرامكة في علوّ وارتفاع وتزايد، حتى انحرفت عنهم الدّنيا.