للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان النّعمان بن المنذر [١] ملك الحيرة نائبا لكسرى على العرب، وبين الحيرة والمدائن التي كانت سرير ملك الأكاسرة فراسخ معدودة والنّعمان في كل أيّامه قد عصا على كسرى وإذا حضر مجلسه تبسّط وتجرّأ على مجاوبته، وكان متى أراد خلع طاعته دخل البرية فأمن شرّه.

وأمّا الدّول الإسلاميّة: فلا نسبة لها إلى هذه الدولة حتّى تذكر معها، فأمّا خلافة الأربعة الأوّل: وهم أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان- رضي الله عنهم- وعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- فإنّها كانت أشبه بالرّتب الدينية من الرّتب الدنيوية في جميع الأشياء، كان أحدهم يلبس الثّوب من الكرباس الغليظ، وفي رجله نعلان من ليف، وحمائل سيفه ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعيّة، وإذا كلّم أدنى الرعيّة أسمعه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدّون هذا من الدين الّذي بعث به النبيّ صلوات الله عليه وسلامه، قيل إنّ عمر ابن الخطّاب جاءته برود من اليمن ففرّقها على المسلمين فكان نصيب كلّ رجل من المسلمين بردا واحدا، وكان نصيب عمر كنصيب واحد من المسلمين، قيل:

ففصّله عمر ثم لبسه، وصعد المنبر فأمر الناس بالجهاد فقام إليه رجل من المسلمين وقال: لا سمعا وطاعة، قال لم ذلك؟ قال: لأنّك استأثرت علينا، قال عمر: بأيّ شيء استأثرت؟ قال: إن الأبراد اليمنيّة لما فرّقتها حصل لكلّ واحد من المسلمين برد منها، وكذلك حصل لك، والبرد الواحد لا يكفيك ثوبا، وتراك قد فصّلته قميصا تامّا، وأنت رجل طويل، فلو لم تكن قد أخذت أكثر منه لما جاءك منه قميص فالتفت عمر إلى ابنه عبد الله وقال: يا عبد الله أجبه عن كلامه، فقام عبد الله ابن عمر وقال: إنّ أمير المؤمنين عمر لمّا أراد تفصيل برده لم يكفه، فناولته من بردي لأتمّمه له، فقال الرّجل: أمّا الآن فالسّمع والطاعة [٢] .

وهذه السّير ليست من طرز ملوك الدنيا، وهي بالنّبوّات والأمور الأخرويّة أشبه.


[١] النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة وآخرهم من العرب. كنيته أبو قابوس. مدحه النابغة الذبيانيّ. مات في سجن كسرى سنة/ ٦٠٢/ م.
[٢] السمع والطاعة: لك علينا السمع والطاعة، ونصبهما وارد على تقدير آخر.

<<  <   >  >>