للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بعض الأيّام أحضرت بين يدي الوزير جملة من الثياب النسيج، بعضها صحيح وبعضها مقطوع، فأحضر القمّي بين يديه ليثبت عددها ويحملها إلى الخزانة، وكان الوزير يورد عليه كذا وكذا ثوبا صحاحا فيكتب القمّي كذا وكذا ثوبا، وما يكتب لفظة «صحاحا» ، فقال له الوزير: لم لا تكتب كما أقول لك؟ فقال: يا مولانا لا حاجة إلى ذكر الصّحاح، فإنّي إذا وصلت إلى ذكر ثوب مقطوع ذكرت تحته أنّه مقطوع، فتخصيص المقطوع بالذكر يدلّ على أنّ ما لم يوصف بالقطع صحيح فقال الوزير: لا بل اكتب كما أقول لك فراجعه القمّي، فحرد [١] الوزير لذلك، وارتفع صوته والتفت إلى الحاضرين وقال: أنا عزلت الكتّاب الكبار الذين كانوا عندي لأجل مخالفتهم ولجاجهم فيما أقوله واستكتبت هذا الصبي ظنّا منّي أنه لحداثة سنّه لا يكون عنده من التجرّؤ والمخالفة ما عندهم، فإذا هو أشدّ مخالفة من أولئك، فخرج بعض خدّام السّلطان من بين يديه- وكان جالسا قريبا من مجلس الوزير- وسأل عن كثرة الصّياح وحرد الوزير، فعرّف الخادم صورة ما جرى بين الوزير والقمّي فدخل وحكى للسلطان ما قيل، فقال له: اخرج وقل للوزير الحقّ ما أعمده [٢] الصبيّ الكاتب، وصار الخادم يستشيره ويسكن إليه ويأنس به، فاتّفق أنّ السلطان عيّن على هذا الخادم وعلى رجل آخر ليتوجّها في رسالة إلى ديوان الخليفة، فالتمس الخادم أن يكون القمّي صحبته، فتوجّهوا إلى بغداد وحضر الخادم ورفيقه عند الوزير ابن القصّاب فشافهاه بالرّسالة وسمعا الجواب، وكان جوابا غير مطابق للرسالة ولكنه كان نوعا من المغالطة، فقنع الخادم ورفيقه بذلك الجواب، وما تنبها على فساده، وخرجا فرجع القمي ووقف بين يدي الوزير وحادثة سرا وقال له: يا مولانا الجواب غير مطابق لما أنهاه المماليك، فقال له الوزير:

صدقت ولكن دعهم على غباوتهم ولا تفطنهم إلى ذلك، فقال السمع والطاعة، ثم إن ابن القصاب كتب إلى الخليفة يقول له: إنه قد وصل إلى صحبة خادم السلطان فلان


[١] حرد: غضب.
[٢] أعمده: «كذا في ألما ص/ ٣٧٧/، وهي اعتهده في رحما ص/ ٢٣٨/، وفي طبعة بيروت ص/ ٣٢٧/. ولعل الصّواب أعدّه أو أعتمده ومعناها أقرّه وارتضاه» . المحقق.

<<  <   >  >>