للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأحمق على أعراض الناس وأموالهم، وإدخاله في المملكة حتى كاد أن يوّلي الوزراء ويعزلهم، قبيح من المستعصم ودليل على جهله، وإلّا فإن كان مراده الإحسان إليه مكافأة له على سابق خدمته، فقد كان يحب أن يكون ذلك بمال يعطاه أو برفع منزلة لا يختلّ بسببها أمر في المملكة ولا يتطرّق بها قدح في عقل الخليفة، وكان نظر جمال الدين في هذا المعنى أدقّ من نظري، والحقّ في جانبه- رحمه الله- وكانت هذه المفاوضة بيني وبينه في كتاب كتبته فيه اقتضى الحال ذكر هذه القضية وكتب هو الجواب عنه، وأعاد كتابي إليّ لأني التمست منه إعادة كتابي، والكتابان هما في هذا التاريخ عندي بخطّي وخطّه رحمه الله.

وممّا يليق بالملك ويكمل فضله: أن يكون عالي الهمّة رحيب الصّدر محبّا للرئاسة معدا لها أسبابها، طامح البصر إليها معملا فكره في توسيع مملكته وعلوّ درجته، غير مخلد إلى التنعّم ولا جانح إلى الترف، ولا منهمك في اللّذات. قال بعض حكماء الفرس: همم النّاس صغار، وهمم الملوك كبار. وألباب الملوك مشغولة بكلّ شيء عظيم وألباب السّوقة [١] مشغولة بأيسر الأشياء. وليعلم الملك أن الرئاسة عروس مهورها الأنفس. نظر معاوية إلى عسكر أمير المؤمنين علي- عليه السلام- في صفّين [٢] فالتفت إلى عمرو بن العاص وقال: من يطلب عظيما يخاطر بعظيم. وإني نظرت فيما أحاول فإذا الموت في طلب العزّ، أحسن عاقبة من الحياة مع الذلّ، قال بعض الشعراء:

هي النفس إن ماتت فقد مات قبلها ... كرام وإن تسلم فللحدثان

إذا النّفس لم تشره إلى طلب العلا ... فتلك من الأموات في الحيوان

(طويل) ومن الغاية في المعنى قول امرئ القيس:

ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني- ولم أطلب- قليل من المال

ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي


[١] السّوقة: عوّام الناس، نقيض الملوك والخواصّ.
[٢] صفّين: موقع وشريعة ماء جرت فيه المعركة المشهورة بين أنصار عليّ بن أبي طالب، وأنصار معاوية بن أبي سفيان وانتهت المعركة إلى التحكيم عام/ ٣٧/ هـ.

<<  <   >  >>