للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومما يكمل فضيلة الملك: أن تكون قوّة الاختيار عنده سليمة لم تعترضها آفة فيكون يختار الرجال اختيارا فاضلا، كان الناصر [١] آية الدنيا في اختيار الرجال فكان من توصّلاته إلى معرفة الرّجل إن أشكل عليه، أن يشيع بين الناس أنّه يريد أن يوليه المنصب الفلانيّ، ثم يتمادى في إبرام ذلك أيّاما، فيمتلئ البلد بالأراجيف، لذلك الرجل فيفترق فيه الناس: فقوم يصوّبون ذلك الرأي ويصفون فضائل الرجل، وقوم يغلّطون الخليفة ويذكرون عيوب الرجل، وللخليفة عيون وأصحاب أخبار لا يؤبه لهم، يخالطون أصناف الناس، فيكتب أصحاب الأخبار إليه بما الناس فيه من الغليان في ذلك، فيعرف بصحّة نظره وتمييزه أيّ القولين أرجح وأصوب، فإن رجح في نظره تفضيل الرجل، ولّاه وخلع عليه، وإن ترجّح عنده قول الطاعنين عليه وتبيّن له نقصه، تركه وأعرض عنه وفي الجملة فحسن الاختيار أصل عظيم، قال الشاعر:

من كان راعيه ذئبا في حلوبته [٢] ... فهو الّذي نفسه في أمره ظلما

يرجو كفايته والغدر عادته ... ومن يرد خائنا يستشعر النّدما

(بسيط) ومما يكره للملوك: المبالغة في الميل إلى النساء، والانهماك في محبّتهنّ، فأمّا مشاورتهنّ في الأمور: فمجلبة للعجز، ومدعاة إلى الفساد، ومنبهة [٣] على ضعف الرّأي اللَّهمّ إلا أن تكون مشاورتهن يراد بها مخالفتهن، كما قال- عليه السلام-: «شاوروهنّ وخالفوهن» وفي هذا الحديث سؤال وجواب.

إن قال قائل: إذا كان المراد مخالفتهن في آرائهن فأي فائدة في الأمر بمشاورتهن وقد كان يكفي في هذا أن يقال خالفوهن فيما يشرن به؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الأمر الأول للإباحة، والأمر الثاني للوجوب. يعني إذا شاورتموهن فخالفوهن. والآخر: أن الصواب لا يزال في خلاف آرائهن، فإذا أشكل


[١] الناصر: أبو العباس أحمد بن المستضيء. تولى الخلافة العباسية في بغداد/ ٥٧٥- ٦٢٢/.
[٢] الحلوبة: الأغنام والأنعام التي تحلب، وقد استعارها الشاعر للرعايا من البشر.
[٣] منبهة: دليل.

<<  <   >  >>