للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عليكم الصّواب فشاوروهنّ فإذا ملن إلى شيء فاعلموا أن الصواب في خلافه. وفي هذا تظهر فائدة الأمر بمشاورتهن يعني بها يستدلّ على الصّواب. وحدث أن عضد الدولة [١] فنا خسرو بن بويه شغفته امرأة من جواريه حبّا، فاشتغل بها عن تدبير المملكة، حتّى ظهر الخلل في مملكته، فخلا به وزيره وقال له: أيها الملك: انّ هذه الجارية قد شغلتك عن مصالح دولتك حتّى لقد تطرق النّقص عليها من عدّة جهات، وما سبب ذلك الا اشتغالك عن إصلاح دولتك بهذه الأمة، والصّواب أن تتركها وتلتفت إلى إصلاح ما قد فسد من مملكتك قال: فبعد أيام جلس عضد الدولة على مشترف له على دجلة، ثم استدعى الجارية فحضرت، فشاغلها ساعة حتى غفلت عن نفسها، ثم دفعها إلى دجلة فغرقت وتفرغ خاطره من حبها، واشتغل بإصلاح أمور دولته، فاستعظم النّاس هذا الفعل من عضد الدولة، ونسبوه فيه إلى قوّة النفس، حين قويت نفسه على قتل محبوبته.

وأنا أستدلّ بهذا الفعل على ضعف نفس عضد الدولة لا على قوّتها، فإنه لو لم يحس من نفسه بالانفعال العظيم لحبّها، لما توصّل إلى إعدامها، ولو تركها حيّة ثم أعرض عنها لكان ذلك هو الدليل على قوّة نفسه.

ولكلّ صنف من الرعية صنف من السياسة فالأفاضل يساسون بمكارم الأخلاق والإرشاد اللطيف، والأوساط يساسون بالرّغبة الممزوجة بالرهبة، والعوامّ يساسون بالرّهبة، وإلزامهم الجدد [٢] المستقيم، وقسرهم [٣] على الحقّ الصّريح.

واعلم أن الملك لرعيته كالطبيب للمريض: إن كان مزاجه لطيفا لطّف له التدبير ودسّ له الأدوية المكروهة في الأشياء الطيّبة، وتحيّل عليه بكلّ ممكن حتى يبلغ غرضه من برئه، وإن كان مزاجه غليظا عالجه بمرّ العلاج وصريحه وشديدة. ولذلك لا ينبغي للملك أن يتهدّد من يكفى في تأديبه الإعراض والتقطيب،


[١] عضد الدولة: اسمه فنّا خسرو، أعظم ملوك بني بويه المتنفذين في بغداد، مدحه الشاعر المتنبي واستوزر الصاحب ابن عبّاد. توفي ٣٧٢ هـ.
[٢] الجدد: الجادّة المستقيمة.
[٣] القسر: الإرغام والإجبار.

<<  <   >  >>