وهذا دليل على كراهيتهم للرأي الفطير. وكانوا لا يشاورون الجائع حتى يشبع، ولا الأسير حتى يطلق، ولا الطالب حتى يببلغ حاجته، ولا العطشان حتى يروى، ولا الضالّ حتى يهتدي. وقال بعض الشعراء يصف عاقلا:
عليم بأعقاب الأمور كأنّما ... يخاطبه من كلّ أمر عواقبه
وما أعرف أحسن من قول ابن الروميّ [١] في تفصيل الرأي المختمر على الرأي الفطير:
نار الرّويّة نار جدّ منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضّلها قوم لعاجلها ... لكنّه عاجل يمضي مع الرّيح
(بسيط) ومما يوجبه العقل الصحيح، أنّ الإنسان لا يدخل في أمر يعسر الخروج منه، قال الشاعر:
ما من الحزم أن تقارب أمرا ... تطلب البعد منه بعد قليل
فإذا ما هممت بالشيء فانظر ... كيف منه الخروج بعد الدّخول
(خفيف) قالوا: وأفضل من ذلك أن الإنسان لا يدخل نفسه في أمر يحتاج في الخروج منه إلى فكر، قال معاوية بن العاص- رضي الله عنهما- ما بلغ من دهائك؟ قال: ما دخلت في أمر إلا وأحسنت الخروج منه، فقال معاوية: لكني أنا ما دخلت في أمر أحتاج في الخروج منه إلى فكر.
ومن الأمور المهمّة للملك، حسن نظره في إرسال الرّسل، فبالرسول يستدل على حال المرسل. قال بعض الحكماء: إذا غاب عنكم حال الرجل، ولم تعلموا مقدار عقله، فانظروا إلى كتابه ورسوله، فهما شاهدان لا يكذبان. ويجب أن يكون في الرّسول خصال- منها العقل، ليميّز به الأمر المستقيم من المعوجّ.
[١] ابن الروميّ: عليّ بن العبّاس، شاعر عباسي مشهور، عرف بتشاؤمه، توفي/ ٢٨٣/ هـ