للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والأمانة والعفاف لئلا يخون مرسلة، فكم من رسول برقت له بارقة طمع من جهة من أرسل إليه، فحفظ جانبه وترك جانب مرسلة. أرسل معاوية- رضي الله عنه إلى ملك الروم رسولا من أقاربه كان يعتمد عليه لتقرير أمر الهدنة، واشترط معاوية شروطا غليظة، فلما حضر الرّسول عند ملك الروم، اجتهد به على تخفيف تلك الشروط فلم يقبل. فخلا به وقال له: بلغني أنّك فقير، وأنك إذا أردت الركوب إلى معاوية تستعير الدوابّ. قال: كذلك هو.

قال: فما أراك تعمل لنفسك شيئا، وهذا المال الّذي عندنا كثير، فخذ منه ما يغنيك إلى الأبد ودع معاوية. وأحضر له عشرين ألف دينار فأخذها وخفف له الشروط وأمضى الهدنة، ثم رجع إلى معاوية. فلما نظر معاوية في الكتاب علم بالحال فقال له: ما أراك عملت إلا له! وعزم على مؤاخذته، فقال له: يا أمير المؤمنين، أقلني [١] قال: قد أقلتك، وأعرض عنه [٢] . وفيما فعل كمال الدين محمّد بن الشّهرزوري [٣] حين أرسله أتابك زنكي صاحب الموصل إلى بغداد لتقرير أمر الرّاشد [٤]- منبهة على وجوب تدقيق النظر في اختيار الرسل- وذلك أنه لمّا خلع الراشد ببغداد فارقها وحضر إلى الموصل مستعينا بأتابك زنكي، وخلا به ووعده ومنّاه أنه إن عاد إلى الخلافة أن يفعل معه ويصنع فتهوّس أتابك زنكي بذلك وضمن له صلاح الحال مع السلطان مسعود، ثم إن أتابك زنكي عزم على مراسلة الديوان ببغداد في هذا المعنى فاختار للرسالة كمال الدين بن الشهرزوريّ قاضي الموصل، فأرسله ووصّاه بالاحتجاج والمبالغة في تقرير أمر الراشد ونقض ما


[١] أقلني: نحّ عني العقوبة والمسئوليّة. اعف عنّي.
[٢] أعرض عنه: انصرف عنه وقاطعه. هجره.
[٣] كمال الدين الشهرزوريّ: قاضي الموصل عند أتابك زنكي وكانت للمؤرّخ ابن الأثير به معرفة على ما يبدو من الرواية.
[٤] الراشد: الخليفة العباسي الثلاثون. أزاحه السلطان مسعود السلجوقي، ولجأ إلى الموصل ثم فرّ إلى أصفهان حيث قتل عام/ ٥٣٢/ هـ.

<<  <   >  >>