للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فناداه مولاه طبْ يا فتى ... فأنت لنا من أعز الخدم

ويعجبني قول من قال من أهل الصبابة والحال:

هجرت الكرى في حُبِّ من جاد بالنعم ... وعِفْتُ الكرى شوقًا إليه فلم أنم

وموهتُ دهري يا لجنون عن الورى ... لأكتُمَ ما بي من هواه هما انكتم

فلما رأيت الشوق والحب بايحا ... كشفت قناعي ثم قُلْتُ: نعم نعم

فإن قيل مجنونٌ فقد جنني الهوى ... وإن قيل: مسقام فما بي من سقم

وحق الهوى والحب والعهد بيننا ... وحرمة روح الأنس في حِنْدِسِ (١) الظلم

لقد لامني الواشون فيك جهالة ... فقلت لنطقي أفصح العذر فاحتشم

فعاتبهم طرفي بغير تكلم ... وأخبرهم أن الهوى يورث الصمم

فبالحلم يا ذا المنّ لا تبعدنني ... وقرِّب مزاري منك يا باري النسم

قال ابن الجوزي (٢): ذكر ابن الجوّال المغربي قال: كنت ببيت المقدس جالسًا وإذا قد طلع شابٌ والصبيانُ حوله يرمونه بالحجارة ويقولون مجنون فدخل المسجد وجعل ينادي: اللهمَّ أرحني من هذه الدار فقلت له: هذا كلام حكيم فقال: ليس بي جنون ووَلَق بل فرَقٌ وقلق ثم أنشأ يقول الأبيات المتقدمة.

قال: فقلت له: أحسنت لقد غلط من سمّاك مجنونا، فنظر إليّ وبكى ثم قَالَ: ألا تسألني عن القوم كيف وصلوا واتصلوا؟ قلت: بلى أخبرني، قال: طهروا له الأخلاق، ورضوا منه بيسير الأرزاق وهاموا في محبته في الآفاق، وائتزروا بالصدق وارتدوا بالإشفاق، وباعوا العاجل الفاني بالآجل الباقي، ركضوا في ميادين السباق


(١) حِنْدِس: شديد الظلمة.
(٢) صفة الصفوة ٤/ ٢٠٩ - ٢١٠.