للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فعوتبتْ في كثرة إتيانها القبور، فقالت: إنّ القلبَ القاسي إذا حفى لم يلينه إلا رسومُ البلى، وإني لآتي القبور وكأني أنظر إليهم قد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظرُ إلى تلك الوجوه المتعفرة، وإلى تلك الأجسام البالية المتغرة، وإلى تلك الأكفان الدنسة، فيا له من مَنظرٍ (١).

ولأبي العتاهية رحمه الله:

إني سالتُ التُرَب ما فعلت ... بَعدي وجوهٌ فيك متعفرة

فأجابني صَيّرت ريحَهم ... يؤذيك بعدَ روائح عطرة

وأكلْتُ أجسادًا منعمة ... كان النعيمُ يهزُها نضره

ولم يبقِ غيرَ جماجمٍ عَريتْ ... بيضٌ تلوحُ وأعظم نخره

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي إسحق، أنه قال: شهدتُ جنازة رجل من إخواني مُنذ خمسينَ سنة فلمّا دُفن وسُوّى عليه التراب، وتفرق الناس جلستُ إلى بعض تلك القبور، ففكرت فيما كانوا فيه من الدُنيا وانقطاع ذلك عنهم فأنشأت أقول:

سلام على أهل القبور الدَّوارس ... كأنهم لم يجلسوا في المجالس

ولم يَشربُوا من بارد الماء شَربة ... ولم يأكلوا من (٢) بين رَطب ويابس

ألا خبّروني أين قبرُ ذليلُكم ... وقبر العزيز الماذخ المتمارس

قال فغلبتني عيني والله، فقمتُ وأنا محزون (٣).


(١) "أهوال القبور" ص ٢٢٦ - ٢٢٧.
(٢) في المخطوطة: لعله ما بين رطب ويابس، لكن الرواية من بين؛ من المؤلف وعن نسخته.
(٣) "القبور" ص ١٤٩ - ١٥٠ (١٨٠).