للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأمر، فلم يهن، وسلاه، فلم يتسلَّ، فقال له أبوه: لا جَرَمَ والله لأدعنَّك تلحق بإخوتك، فبعث إليه ثيابه من المسوح فلبسها وخرج من جوف الليل فتعلق بالجبال ولحق بإخوته فتعبد معهم، وكان يقول في مناجاته: اللهم إني أسألك أمرًا ليس إليَّ، قد سبقت به المقاديرُ، ولوددت أني لو كنت كالطير في الهواء والسمك في الماء، ولم أك شيئًا مذكورًا مخافة الحساب والعقاب.

وأنشد الإمام ابن الجوزي في "تبصرته" (١):

أتنكر أمر الموت أم أنت عارفٌ ... بمنزله تفنَى وفيه المتالف

كأنَك قد غُيِّبِت في اللحد والثرى ... كما لقي الموت القرونُ السِوالف

أرى الموت قد أفنى القرون التي مضت ... فلم يبق مألوف ولم يبق آلف

كأن الفتى لم يصحب الناس ليلة ... إذا عُصبت يوما عليه اللفائف

وقامت عليه عصبة يدفنونه ... فمستذكر يبكى حزينًا وهاتف

وغيّب في لحد كريه فناؤه ... ونُضَّد من لبن عليه السقائف

وما صاحب البحر القطيع مكانه ... إذا هاج آذى من عليه وقاصف

أحق بطول الحزن من ضيق غربة ... تصدّع عنه أهله والمعارفُ

ثم قال: أين من ربح في متاجر الدنيا واكتسب؟ أين من أعطى وأولى ثم وَالى ووهب؟ أما رحل عن قصره الذهبُ فذهب؟ أما حلّ به في الحرب المصطلم الحرب؟ أما نازله التلف وأسره العطب؟ أما نابته نائبة لا تُشْبِه النُّوَب؟ أنفعه بُكاء من بكى أو نَدبُ مَن


(١) التبصرة لابن الجوزي ١/ ١٧٣ - ١٧٤.