للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فيه ذله وهوانه، والحساب العسير ينشر فيه ديوانه، والموقف الطَّويل فيه غمومه وأحزانه، والجحيم الشَّديد فيه من العذابِ ألوانه، ذكر العرض أجرى دموعَ الخائفين وهوْل الحساب قلقل أفئدة التَّائبين.

سَأَلَ رجلٌ ذا النونِ (١): ما الذي أنصب العباد وأضناهم؟ فقال: "ذكر المقامِ، وقلة الزادِ، وخوف الحساب". ولِمَ لا تذوبُ أبدانُ العبادِ، وتذهل عقولُهم والعرض على اللهِ تعالى أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم، والملائكة وقوف ينتظرون أمر الجبّار في الأخْيار، والأشرارِ؟! فمثل القوم هذا في نفوسهم، وجعلوه نصبَ أعينهم. إخواني قد شملت الغلة الخلائق حَتَّى سترت عنهم وجوه الحقائق فصار اليقينُ عندهم كالظنونِ فالعاقل يفعل فعل المجنون ولله درّ القائل:

يا أيُّها الراقد كَمْ ترقد ... قمْ يا حبيبي قد دَنا الموعد

وخذْ من الليل وساعاته ... حظا إذَا مَا هجع الرُّقَدُ

مَنْ نَامَ حَتَّى ينقضي ليلُه ... لمْ يبلغ المنزل أو يجهد

قلْ لذوي الألبابِ أهل التقى ... فنظرة العرض لكم موعد (٢)


(١) هو: ثوبان بن إبراهيم، ويقال: الفيض بن أحمد، ويقال: كنيته أبو الفيض وقيل: أبو الفياض. كان مولى لقريش كان أبوه نوبيًا وكان عالمًا فصيحًا، وكان ممن امتُحِنَ وأُوذِيَ وكان أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال وفي مقامات الأولياء، وقال السلميُّ: لما مات أظلت الطير جنازته مات سنة خمس وأربعين ومائتين.
(٢) هذه الأبيات لسعدون المجنون نسبها له صاحب كتاب "عقلاء المجانين" ١/ ١٢٢.