للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأوَّلِ ففؤادُهُ مُتنقلٌ في تلك المَحالِّ، وأنَّ الحبَّ الثابت الدائمَ لا يصلُحُ إلا للحبيبِ الأوَّلِ، الذي محبَّةُ ما سِواه باطلٌ وعذابٌ على المُحبِّ وشَقاءٌ، وكذلك تنقُّلُهُ في المنازِل وعدمُ سكونِهِ بقلبِهِ إلى شيءٍ منها؛ لأنَّه يَحِنُّ إلى منزلِهِ الأوَّلِ الذي كان فيه وسُبِيَ منه، فهو يَعْمَلُ على عَودِهِ إليه.

ولي من أبيات طويلةٍ (١):

وحَيَّ على جَنَّاتِ عَدْنٍ فإنَّهَا ... مَنازِلُك الأُولَى وفيها المُخَيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ (٢) العَدُوِّ فهل ترى ... نَعودُ إلى أوطانِنَا ونُسَلّمُ

فهذه الطيباتُ من الأصواتِ المباحةِ، والصورِ الجميلةِ، والمطاعمِ والمشاربِ، والملابسِ والمناظرِ إذا كانت على وجهها وصادَفَت ذا هِمَّةٍ عاليةٍ ومحبَّةٍ ناصحةٍ وصدْقٍ وعزيمةٍ= انتَفَعَ بها غايةَ الانتفاع، وإلا انقَطَعَ بها غايةَ الانقطاع.

فهذا التوسُّطُ في أمرِ السماع هو بينَ مرتبةِ المائِعِينَ المُنْحَلِّينَ، وبينَ مرتبةِ القاسِينَ اليابسِينَ، وهم مع قسوتهم ويُبْسِهم خيرٌ وأحَبُّ إلى الله وأقرَبُ إلى رِضاهُ من أولئك، وأحفظُ لحدوده وأقومُ بأمرِهِ ودينِهِ، وإن فاتَتْهم مراتبُ أهل المحبَّةِ الذَّائقينَ لحالِها، الذين رُفِعَ لهم عَلَمُها فشَمَّروا إليه، وهم درجاتٌ عند الله، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.


(١) تقدم البيتان والتخريج (ص ٤٧).
(٢) ع: "بسبي".