وقوله: [{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} تَنَاقُضُهم في ذَلِكَ]: قوله: {بَلْ} هنا للإضرابِ الانتِقَالِي، يعني: بعد أن ثَبَتَ الأمرُ وقامَتِ الحُجَّةُ واستَحَقَّ البارِي الحمدَ، حينئذٍ يَصِحُّ أن يُسَجِّلَ عليهم الجهْلَ فـ {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} يعني: عندَهُم من السَّفَهِ ما هو ظاهِرٌ وبَيِّنٌ؛ لأنهم لو كان عِنْدَهُم عقول لكانَ إقرارَهُمْ بما أَقَرُّوا به مُلْزِمًا لإقرَارِهِمْ بما أنْكَرُوه، فهم أقَرُّوا أن الذي خلَقَ السمواتِ والأرضَ وسخَّر الشمسَ والقمر هو اللَّهُ، وأقَرُّوا أن الذي أنْزَلَ منَ السماءِ ماءً فأحْيَا بِهِ الأرْضَ بعدَ مَوْتِهَا هو اللَّه، إذن: أين العقلُ وأنتم تُنكِرُونَ البَعْثَ وتُشْرِكُونَ بالخالِق؟
ويُشْبِهُ هؤلاءِ الذين يدَّعُونَ أنَّهُمْ عُقلاءُ مِنَ المتكَلِّمينَ ثم يُنْكِرُونَ بعضَ صفاتِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، محتَجِّين أن العَقلَ لا يُقِرُّ هذه الصفاتِ، مع أن العقلَ يَلْزَمُهم أن يُقرُّوا بما أنْكَرُوه نظيرَ إقرَارِهِمْ بما أقَرُّوا بِهِ، ونضْرِبُ مِثَالًا بالأشاعرة فيهم يقولون: نُثْبِتُ للَّه الإرادةَ ونُنْكِرُ الرَّحمةَ، قالوا: لأن الإرَادةَ دَلَّ عليها العَقْلُ، والرحمةُ دَلَّ العقلُ على بُطلانِهَا، فأثْبَتُوا الإرادَةَ لأن العقلَ دلَّ عليها بالتَّخْصِيصِ؛ تَخْصِيصُ كونِ السماءِ سماء والأرض أرضًا، والإنسان بَشَرًا والحمارُ حيوانًا وما أشبه ذَلِكَ، فاللَّه جَلَّ وَعَلَا أرادَ أن يكونَ الإنسانُ إنسانًا، وأن تكون السماء سماء فكانتِ سماءً، والحيوانُ حيوانًا غيرَ ناطِق فكان حيوانًا. . . إلخ.
والرحمةُ يقولون: دلَّ العَقْلُ على إنكارِهَا؛ لأن الرحمةَ لينٌ ورِقَّةٌ، واللَّه جَلَّ وَعَلَا لا يُوصَفُ باللِّين والرِّقَّةِ.
فقلنا لهم: أنتم استَدْلَلْتُم بالواقِعِ على الإرادَةِ، ونحن نَسْتَدِلُّ عليكُمْ بالواقع على الرَّحْمَةِ، ودَلالَةُ الواقِعِ على الرَّحمةِ أعظمُ من دلالَةِ الواقِعِ على الإرادَةِ، ولو تأتي