للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى»، قُلْتُ: «كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟»، قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ» (رواه البخاري).

(أَيّ مَسْجِد وُضِعَ فِي الْأَرْض أَوَّلُ) بِضَمِّ اللَّام، مِثْل قَبْلُ وَبَعْدُ، وَالتَّقْدِير أَوَّل كُلّ شَيْء. (الْمَسْجِد الْأَقْصَى) يَعْنِي مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس، وَقِيلَ لَهُ الْأَقْصَى لِبُعْدِ الْمَسَافَة بَيْنه وَبَيْن الْكَعْبَة، وَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَوْضِع عِبَادَة، وَقِيلَ لِبُعْدِهِ عَنْ الْأَقْذَار وَالْخَبَائِث، وَالْمَقْدِس الْمُطَهَّر عَنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -: (أَرْبَعُونَ سَنَة) فِيهِ إِشْكَال، لِأَنَّ إِبْرَاهِيم بَنَى الْكَعْبَة، وَسُلَيْمَان - عليه السلام - هُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى (١) وَبَيْنهمَا أَكْثَر مِنْ أَلْف سَنَة.

وَالجَوَاب أَنَّ الْإِشَارَة إِلَى أَوَّل الْبِنَاء وَوَضْع أَسَاس الْمَسْجِد وَلَيْسَ إِبْرَاهِيم أَوَّل مَنْ بَنَى الْكَعْبَة وَلَا سُلَيْمَان أَوَّل مَنْ بَنَى بَيْت الْمَقْدِس، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: «إِنَّ الْحَدِيث لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيم وَسُلَيْمَان لَمَّا بَنَيَا الْمَسْجِدَيْنِ اِبْتَدَآ وَضْعهمَا لَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ تَجْدِيد لِمَا كَانَ أَسَّسَهُ غَيْرهمَا».

قَوْلُهُ: (فَصَلِّهْ) بِهَاءٍ سَاكِنَة وَهِيَ هَاء السَّكْت.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْفَضْل فِيهِ) أَيْ فِي فِعْل الصَّلَاة إِذَا حَضَرَ وَقْتهَا.


(١) فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ - عليه السلام - لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - خِلَالًا ثَلَاثَةً: سَأَلَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (رواه النسائي وصححه ابن حجر والألباني).
(حُكْمًا يُصَادِف حُكْمه) أَيْ يُوَافِق حُكْم اللهِ تَعَالَى، وَالْمُرَاد التَّوْفِيق لِلصَّوَابِ فِي الِاجْتِهَاد وَفَصْل الْخُصُومَات بَيْن النَّاس. (فَأُوتِيَهُ) عَلَى بِنَاء الْمَفْعُول مِنْ الْإِيتَاء وَنَائِب الْفَاعِل ضَمِير مُسْتَتِر لِسُلَيْمَان وَالضَّمِير الْمَنْصُوب لِمَسْئُولِهِ. (أَنْ لَا يَأْتِيه) أَيْ لَا يَجِيئهُ وَلَا يَدْخُلهُ أَحَد. (لَا يَنْهَزهُ) لَا يُحَرِّكهُ. (أَنْ يُخْرِجهُ) مِنْ الْإِخْرَاج أَوْ الْخُرُوج وَالظَّاهِر أَنَّ فِي الْكَلَام اِخْتِصَارًا وَالتَّقْدِير أَنْ لَا يَأْتِيه أَحَد إِلَّا يُخْرِجهُ مِنْ خَطِيئَته كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه.

<<  <  ج: ص:  >  >>