[صفة خطبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -]
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في (زاد المعاد): «كَانَتْ خُطْبَتُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - إنّمَا هِيَ تَقْرِيرٌ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ: مِنْ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ وَذِكْرِ الْجَنّةِ وَالنّارِ وَمَا أَعَدّ اللهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ وَمَا أَعَدّ لِأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ؛ فَيَمْلَأُ الْقُلُوبَ مِنْ خُطْبَتِهِ إيمَانًا وَتَوْحِيدًا وَمَعْرِفَةً بِاللهِ وَأَيّامِهِ.
وَمَنْ تَأَمّلَ خُطَبَ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَخُطَبَ أَصْحَابِهِ وَجَدَهَا كَفِيلَةٍ بِبَيَانِ الْهُدَى وَالتّوْحِيدِ، وَذِكْرِ صِفَاتِ الرّبّ جَلّ جَلَالُهُ، وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الْكُلّيّةِ، وَالدّعْوَةِ إلَى اللهِ وَذِكْرِ آلَائِهِ تَعَالَى الّتِي تُحَبّبُهُ إلَى خَلْقِهِ وَأَيّامِهِ الّتِي تُخَوّفُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ، وَالْأَمْرِ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ الّذِي يُحَبّبُهُمْ إلَيْهِ، فَيَذْكُرُونَ مِنْ عَظْمَةِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ مَا يُحَبّبُهُ إلَى خَلْقِهِ وَيَأْمُرُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ وَذِكْرِهِ مَا يُحَبّبُهُمْ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ السّامِعُونَ وَقَدْ أَحَبّوهُ وَأَحَبّهُمْ.
وَمِمّا حُفِظَ مِنْ خُطَبِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنّهُ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَخْطُبَ بِالْقُرْآنِ وَسُورَةِ {ق}. قَالَتْ أُمّ هِشَامٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ النّعْمَانِ: «مَا حَفِظْت (ق) إلّا مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِمّا يَخْطُبُ بِهَا عَلَى المنْبَرِ» (رواه مسلم).
هَدْيِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي خُطَبِهِ
• كَانَ - صلى الله عليه وآله وسلم - إذَا خَطَبَ احْمَرّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدّ غَضَبُهُ حَتّى كَأَنّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبّحَكُمْ وَمَسّاكُمْ، وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَيُقْرِنُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السّبّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ: «أَمّا بَعْدُ فَإِنّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ، وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة» ثُمّ يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيّ وَعَلَيّ» (رَوَاهُ مُسْلم).
• وَكَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ التّحْمِيدِ وَالثّنَاءِ وَالتّشَهّدِ «أَمّا بَعْدُ» (رواه البخاري).
• وَكَانَ يُقَصّرُ الْخُطْبَةَ وَيُطِيلُ الصّلَاةَ وَيُكْثِرُ الذّكْرَ وَيَقْصِدُ الْكَلماتِ الْجَوَامِعَ وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» (رواه مسلم). (مَئِنَّة: أَيْ عَلَامَة).
• وَكَانَ يُعَلّم أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ كَمَا أَمَرَ الدّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلّيَ رَكْعَتَيْنِ. (رواه البخاري ومسلم).وَنَهَى المتَخَطّيَ رِقَابَ النّاسِ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ. (حسن رواه أبو داود).
• وَكَانَ يَقْطَعُ خُطْبَتَهُ لِلْحَاجَةِ تَعْرِضُ أَوْ السّؤَالِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُجِيبُهُ ثُمّ يَعُودُ إلَى خُطْبَتِهِ فَيُتِمّهَا. وَكَانَ رُبّمَا نَزَلَ عَنْ المنْبَرِ لِلْحَاجَةِ ثُمّ يَعُودُ فَيُتِمّهَا كَمَا نَزَلَ لِأَخْذِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رضي الله عنهما - فَأَخَذَهُمَا ثُمّ رَقِيَ بِهِمَا المنْبَرَ فَأَتَمّ خُطْبَتَهُ. (صحيح رواه الترمذي).
• وَكَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ السّبّابَةِ فِي خُطْبَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ. (رواه مسلم). وَكَانَ يَسْتَسْقِي بِهِمْ إذَا قَحَطَ المطَرُ فِي خُطْبَتِه.
• وَكَانَ يُمْهِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتّى يَجْتَمِعَ النّاسُ فَإِذَا اجْتَمَعُوا خَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ.
• فَإِذَا دَخَلَ المسْجِدَ سَلّم عَلَيْهِمْ فَإِذَا صَعِدَ المنْبَرَ اسْتَقْبَلَ النّاسَ بِوَجْهِهِ وَسَلّم عَلَيْهِمْ.
• ثُمّ يَجْلِسُ وَيَأْخُذُ بِلَالٌ فِي الْأَذَانِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ قَامَ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَخَطَبَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ.
• لَا يُحْفَظُ عَنْهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَعْدَ اتّخَاذِ الْمِنْبَرِ أَنّهُ كَانَ يَرْقَاهُ بِسَيْفٍ وَلَا قَوْسٍ وَلَا غَيْرِهِ. (١)
• وَكَانَ مِنْبَرُهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ وَكَانَ قَبْلَ اتّخَاذِهِ يَخْطُبُ إلَى جِذْعٍ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فَلما تَحَوّلَ إلَى المنْبَرِ حَنّ الْجِذْعُ حَنِينًا سَمِعَهُ أَهْلُ المسْجِدِ فَنَزَلَ إلَيْهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَضَمّهُ. (رواه البخاري).
• وَكَانَ يَقُومُ فَيَخْطُبُ ثُمّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ الثّانِيَةَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَخَذَ بِلَالٌ فِي الْإِقَامَةِ.
• وَكَانَ يَأْمُرُ النّاسَ بِالدّنُوّ مِنْهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَاتِ وَيُخْبِرُهُمْ أَنّ الرّجُلَ إذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ: «أَنْصِتْ» فَقَدْ لَغَا. (رواه البخاري ومسلم).
• وَكَانَ إذَا فَرَغَ بِلَالٌ مِنْ الْأَذَانِ أَخَذَ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الْخُطْبَةِ وَلم يَقُمْ أَحَدٌ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ الْبَتّةَ، وَلم يَكُنْ الْأَذَانُ إلّا وَاحِدًا.
• وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْجُمُعَةَ كَالْعِيدِ لَا سُنّةَ لَهَا قَبْلَهَا وَهَذَا أَصَحّ قَوْلَيْ الْعُلماءِ وَعَلَيْهِ تَدُلّ السّنّةُ فَإِنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَإِذَا رَقِيَ المنْبَرَ أَخَذَ بِلَالٌ فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَكْمَلَهُ أُخِذَ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الْخُطْبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهَذَا كَانَ رَأْيَ عَيْنٍ، فَمَتَى كَانُوا يُصَلّونَ السّنّةَ؟!!
• وَكَانَ - صلى الله عليه وآله وسلم - إذَا صَلّى الْجُمُعَةَ دَخَلَ إلَى مَنْزِلِهِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ سُنّتَهَا وَأَمَرَ مَنْ صَلّاهَا أَنْ يُصَلّيَ بَعْدَهَا أَرْبَعًا.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيّة َ: إنْ صَلّى فِي المسْجِدِ صَلّى أَرْبَعًا وَإِنْ صَلّى فِي بَيْتِهِ صَلّى رَكْعَتَيْنِ. قُلْتُ وَعَلَى هَذَا تَدُلّ الْأَحَادِيثُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ كَانَ إذَا صَلّى فِي المسْجِدِ صَلّى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلّى فِي بَيْتِهِ صَلّى رَكْعَتَيْنِ (صحيح).
وَفِي (الصّحِيحَيْنِ):عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يُصَلّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِه وَفِي (صَحِيحِ مُسْلم) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إذَا صَلّى أَحَدُكُمْ
(١) قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في (السلسلة الضعيفة والموضوعة رقم٩٦٤): «لم يرد في حديث أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعتمد على العصا أو القوس وهو على المنبر». وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «الاعتماد إنما يكون عند = = الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد، مثل أن يكون ضعيفاً يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فهذا سنة؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة، وما أعان على سنة فهو سنة، أما إذا لم يكن هناك حاجة، فلا حاجة إلى حمل العصا. (الشرح الممتع على زاد المستقنع ٥/ ٦٣).