للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الحسن سدد خطاكم: «هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلًا».

ومن منا الآن يطبق هذا القول على نفسه، وينزلها تلك المنزلة؟ بل البعض يأخذه العجب والتيه والتكبر على عباد الله لدنيا أو منصب أو علم أوجاه .. وكلها منح وعطايا من الله - عز وجل -.ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين.

قال سفيان بن عيينة: «من كانت معصيته في شهوة فارْجُ له التوبة؛ فإن آدم عليه السلام عصي مشتهيًا فاستغفر فغُفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخْشَ عليه اللعنة. فإن إبليس عصى مستكبرًا فلُعن».

أخي المسلم: من اتقى الله تعالى تواضَعَ له، ومن تكبر كان فاقدًا لتقواه، ركيكًا في دينه مشتغلًا بدنياه؛ فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعًا على الخلق، والمتواضع وإن رؤي وضيعًا فهو رفيع القدر.

تواضَعْ تَكُنْ كالنجمِ لاحَ لِنَاظرٍ ... على صَفْحَاتِ الماءِ وهو رَفِيعُ

ولا تكُ كالدّخَانِ يعْلُو بنَفْسِه إلى طبَقَاتِ الجوِّ وهو وَضِيعُ

وتأمل في حال من تلبسه الشيطان في حالة واحدة من حالات الكبر يظنها بعض الناس يسيرة وهي عند الله عظيمة؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَخَسَفَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (رواه مسلم). (يَتَجَلْجَل: يَتَحَرَّك وَيَنْزِل مُضْطَرِبًا).

مر بعض المتكبرين على مالك بن دينار، وكان هذا المتكبر يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أنها مشية يكرها الله إلا بين الصفين؟ (أي عند قتال الكفار) فقال المتكبر: أما تعرفني؟ قال مالك: بلى، أوّلُك نطفة مَذِِرة (أي فاسدة)، وآخرك جيفة قذرة (أي تموت ويأكلك الدود)، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة (يعني البراز)، فانكسر وقال: «الآن عرفتني حق المعرفة».

أخي الحبيب: كل ما تراه من مباهج الدنيا وزينتها إنما هو ظل زائل وراكب مرتحل.

أحلامُ ليلٍ أو كَظِلٍ زَائلِِِ ... إنَّ اللبيبَ بمِثلِها لا يُخْدَعُ

عن ابن شهاب قال: «خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة.

فقال أبو عبيدة: «يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟!

ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك!».

فقال عمر: أَوَّهْ، لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة، جعلته نكالًا لأمة محمد - رضي الله عنه -! إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله».

(رواه الحاكم وقال: «صحيح على شرط الشيخين». ووافقه الذهبي، والألباني).

(استشرفوك):رفعوا أبصارهم ينظرون إليك. (أَوَّهْ) كَلِمَة تُقَال عِنْد التَّوَجُّع.

قال الشاعر:

تواضَعْ إذا ما نِلتَ في الناسِ رفعةً ... فإنّ رفِيعَ القومِ مَن يَتَوَاضَعُ

ولا تمشِ فوقَ الأرضِ إلا تواضعًا ... فكمْ تحتَها قومٌ هُمُوا مِنْكَ أرفَعُ

وإنْ كُنْتَ في عِزٍ رَفيعٍ ومَنْعَةٍ ... فكمْ مَاتَ مِن قومٍ هُمُوا منكَ أمْنَعُ

أيها الناس: اعلموا أن الزمان لا يثبت على حال كما قال - عز وجل -: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:١٣٩).فتارة فقر، وتارة غِنَى، وتارة عز، وتارة ذُل، وتارة منصب، وهكذا؛ فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال، وهو تقوى الله - عز وجل - والتواضع على كل حال، وهذا الذي يزينه ويبقى معه.

<<  <  ج: ص:  >  >>