للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هنا خرجت النتيجة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (الحجرات: ٣). أي أخلص قلوبهم للتقوى، حتى أصبحت لا تصلح إلا له. والمراد أخلصها للتقوى، أي جعلها خالصة لأجل التقوى، أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق، كأن القلوب خلصت ملكًا للتقوى.

موقف واحد يسير في نظرنا لرجلين هما أفضل أمة محمد، - صلى الله عليه وآله وسلم - وامتحان يسير لغفلةٍ بدرت منهما. ولكن! ماذا نقول عن أحوالنا؟ كم من امتحان رسبنا فيه ونحن لا نشعر. وهنا سرّ بديع في هذه الآية: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الحجرات: ٢). لأنه قد يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر، فهو لا يتصور أن يحبط عمله بذلك العمل، أو لا يلقي لعمله بالًا. وكم من عملٍ أو كلمةٍ أودت بصاحبها وهو لا يشعر.

وإذا كان رفع الصوت عند رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - كاد أن يحبط عمل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فما سيكون حال من يرفع صوته فوق صوت الحق؟ أولئك الذين يقدمون شريعة البشر على شريعة الله، أولئك الذين يعادون ويوالون في سبيل الشيطان.

ولنتأمل هذا الحديث العظيم الذي رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا؛ فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (رواه مسلم).

وَمَعْنَى (تُعْرَض) أَنَّهَا تُلْصَق بِعَرْضِ الْقُلُوب أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَق الْحَصِير بِجَنْبِ النَّائِم، وَيُؤَثِّر فِيهِ شِدَّة اِلْتِصَاقهَا بِهِ. وَمَعْنَى (عُودًا عُودًا) أَيْ تُعَاد وَتُكَرَّر شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. (كَالْحَصِيرِ) أَيْ كَمَا يُنْسَج الْحَصِير عُودًا عُودًا وَشَظِيَّة بَعْد أُخْرَى. وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِج الْحَصِير عِنْد الْعَرَب كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَر وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرَضَ الْفِتَن عَلَى الْقُلُوب وَاحِدَة بَعْد أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَان الْحَصِير عَلَى صَانِعهَا وَاحِدًا بَعْد وَاحِد.

<<  <  ج: ص:  >  >>