للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تزوَّدْ مِن التقوَى فإنك لا تَدرِي ... إذا جَنّ ليلٌ هل تعيشُ الى الفجرِ

فكم مِن فتًى أمسَى وأصبحَ ضاحكًا وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدرِي

وكم مِن عروسٍ زينُوها لزوجِها ... وقد قُبضَتْ أرواحهمْ ليلةَ القدْرِ

ِوكم مِن صحيحٍ ماتَ مِن غيرِ عِلَّةٍ وكم مِن سَقيمٍ عاش حِينًا مِن الدهرِ

٣ - وكما أن السفر قطعة من العذاب فالسفر إلى الدار الآخرة كذلك وأعظم منه بمراحل، فأمام الإنسان النَزْعُ والموت والقبر والحشر والحساب والميزان والصراط ثم الجنة أو النار، والسعيد من نجَّاه الله تعالى.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَجْمَعُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمْ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: «وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ».

قَالَ: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى ـ عليه الصلاة والسلام ـ الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا».

فَيَأْتُونَ مُوسَى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فَيَقُولُ: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِهِ»، فَيَقُولُ عِيسَى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ.

وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ.

قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟

قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ.

ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: «رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ»،حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا.

قَالَ: وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ».

وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا. (رواه مسلم).

(تُزْلَف لَهُمْ الْجَنَّة): تَقْرُب، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّة لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ: قَرُبَتْ.

قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ إِبْرَاهِيم - صلى الله عليه وآله وسلم -: (إِنَّمَا كُنْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاء وَرَاء) هَذِهِ كَلِمَة تُذْكَر عَلَى سَبِيل التَّوَاضُع أَيْ: لَسْت بِتِلْكَ الدَّرَجَة الرَّفِيعَة.

قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَتُرْسَل الْأَمَانَة وَالرَّحِم فَتَقُومَانِ جَنْبَتَيْ الصِّرَاط):

(جَنَبَتَا الصِّرَاط) جَانِبَاهُ. و (إِرْسَال الْأَمَانَة وَالرَّحِم) لِعِظَمِ أَمْرهمَا وَكِبَر مَوْقِعهمَا فَتُصَوَّرَانِ مُشَخَّصَتَيْنِ عَلَى الصِّفَة الَّتِي يُرِيدهَا اللهُ تَعَالَى.

(شَدّ الرِّجَال) عَدْوُهَا الْبَالِغ وَجَرْيُهَا. (تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالهمْ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي سُرْعَة الْمُرُور عَلَى حَسَب مَرَاتِبهمْ وَأَعْمَالهمْ.

٤ - وإذا لبس المُحْرم ثوبي إحرامه فلا يذكر إلا كفنه الذي سيكفن به، وهذا يدعوه إلى التخلص من المعاصي والذنوب، وكما تجرد من ثيابه فعليه أن يتجرد من الذنوب، وكما لبس ثوبين أبيضين نظيفين فكذا ينبغي أن يكون قلبه وأن تكون جوارحه بيضاء لا يشوبها سواد الإثم والمعصية.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ».

قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ» (صحيح رواه ابن ماجه).

٥ - وإذا قال الحاجُّ في الميقات: «لبيك اللهم لبيك» فهو يعني أنه قد استجاب لربه تعالى، فما باله باقٍ على ذنوب وآثام لم يستجب لربّه في تركها ويقول بلسان الحال: «لبيك اللهم لبيك» يعني: استجبتُ لنَهْيِك لي عنها وهذا أوان تركها؟

قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال:٢٤)

يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه.

وقوله - عز وجل -: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية الله تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام.

ثم حذر عن عدم الاستجابة لله وللرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن ترُدُّوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.

فليكثر العبد من قول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك».

{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه.

وقال - عز وجل -: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (الشورى:٤٧)

يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم} القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه، فيفوت ربه، ويهرب منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>