للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل إنها قد تُوقِعُ الناس في الكفر، فمن جهة ترك الصلاة - مثلًا - حديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، أو لم يزْدَدْ من الله إلا بعدًا» بعض الناس يقع في الفواحش؛ قد يشرب الخمر، قد يزني قد يسرق، قد يرتشي، فعندما يسمع هذا الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» يقول في نفسه أنا لم أستطع أن أتخلص من الزنا إذًا: ليس لي صلاة، فلماذا أصلي؟!

أعْرِفُ (١) رجلًا قال لي بلسانه ـ وكان رجلًا ضالًا ثم مَنَّ الله عليه فاهتدى ـ: «كنت وأنا ضال في البداية أصلي، مع أني أسافر وأفجر وأفسق لكني كنت أصلي، ثم سمعتُ هذا الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»، فقال: قلت في نفسي: إذًا لماذا أصلي إذا كان ليس لي صلاة وأنا مصمم على المعصية مُصِرٌّ عليها، إذًا: ليس لي حاجة لِأَنْ أصلي، وكلما أردت أن أصلي بَرَزَ أمام عيني هذا الحديث فتركْتُ الصلاة!».

لماذا ترك الصلاة؟ لهذا الحديث الموضوع المكذوب المنكر (٢).


(١) القائل هو الشيخ محمد المنجد.
(٢) وأما متن الحديث فإنه لا يصح، لأن ظاهره يشمل من صلى صلاة بشروطها وأركانها بحيث أن الشرع يحكم عليها بالصحة وإن كان هذا المصلي لا يزال يرتكب بعض المعاصي، فكيف يكون بسببها لا يزداد بهذه الصلاة إلا بعدا؟! هذا مما لا يعقل ولا تشهد له الشريعة، فالمراد في الحديث الصلاة الصحيحة التي لم تثمر ثمرتها التي ذكرها الله تعالى في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: ٤٥).
وأكدها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ»، قَالَ: «إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ». (رواه الإمام أحمد في المسند، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح»، وصححه الألباني).
فأنت ترى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبر أن هذا الرجل سينتهي عن السرقة بسبب صلاته - إذا كانت على الوجه الأكمل طبعًا كالخشوع فيها والتدبر في قراءتها - ولم يقل: إنه «لا يزداد بها إلا بُعْدًا» مع أنه لمّا ينته عن السرقة.
فالمصلي على الحقيقة المحافظ على صلاته الملازم لها تنهاه صلاته عن ارتكاب المحارم والوقوع في المحارم.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصلاة مكفرة للذنوب، فكيف تكون مكفرة ويزداد بها بعدا؟! هذا مما لا يعقل!
ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: ٤٥) أَنَّهَا تَنْهَى عَنْ أَضْدَادِهَا إِذْ كَانَ أَهْلُهَا يَأْتُونَهَا عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي أُمِرُوا أَنْ يَأْتُوا بِهَا عَلَيْهَا , مِنَ الطَّهَارَةِ لَهَا , وَمِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عِنْدَهَا , وَمِنَ الْخُشُوعِ لَهَا , وَتَوْفِيَتِهَا مَا يَجِبُ أَنْ تُوَفَّاهُ , وَاللهُ - عز وجل - قَدْ وَعَدَ أَهْلَهَا بِمَا فِي الْآيَةِ , فَكَانَتِ السَّرِقَةُ ضِدًّا لَهَا , وَهِيَ تَنْهَى عَنْ أَضْدَادِهَا , وَيَرُدُّ اللهُ - عز وجل - أَهْلَهَا إِلَيْهَا , وَيَنْفِي عَنْهُمْ أَضْدَادَهَا حَتَّى يُوَفِّيَهُمْ ثَوَابَهَا , وَحَتَّى يُنْزِلَهُمُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي يُنْزِلُهَا أَهْلَهَا. وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عز وجل - بِمَنِّهِ وَلُطْفِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ يُبَرِّئُ ذَلِكَ السَّارِقَ مِمَّا كَانَ سَرَقَ , وَيَرُدُّهُ إِلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَلْقَاهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ , لَا تَبِعَةَ قَبْلَهُ تَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ جَنَّتِهِ بِمَنِّهِ وَقُدْرَتِهِ.
فحديث «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، أو لم يزدد من الله إلا بعدًا» ليس بثابت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه، وبكل حال فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدًا، بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي وأقرب إلى الله منه وإن كان فاسقًا.
[انظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي (٥/ ٣٠٠ - ٣٠١)، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة للألباني (١/ ٥٧ - ٥٩)].

<<  <  ج: ص:  >  >>