وعلى هذا الأساس فَهِمَ الصحابة الكرام مثالية الإسلام فلم تأسرهم عبادة ولم تقيدهم عادة، وإنما تقلبوا في جميع العبادات والأحوال، فلم يحبسوا نفوسهم في مكان ولا على نوع من العبادة ولا على نمط معين من الأعمال، وانما باشروا الجميع، فعند الصلاة كانوا في المسجد يصلون، وفي حلقات العلم يجلسون معلمين أو متعلمين، وعند الجهاد يقاتلون، وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون، وهكذا كان شأنهم في جميع الأحوال.
الواقعية في الإسلام:
الإسلام لا يغفل طبيعة الإنسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي يرسمه لهم، وفي ضوء هذا النظر الواقعي جعل الإسلام حدًا أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين ولأنه وضع على نحو يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الارتفاع إلى مستوى الكمال. إن هذا المستوى الأدنى يتكون من جملة من معانٍ يجب القيام بها وهي المسماة بالفرائض، كما يشمل جملة معانٍ يجب هجرها وهي المسماة بالمحرمات. إن هذه الفرائض والمحرمات جُعِلَتْ بقدر طاقة أقل الناس استعدادًا لفعل الخير وابتعادًا عن الشر، ومِن ثَمَّ يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاه، ولا يُعذَر في التخلف عنها.
ولكن بجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم، وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه وحببت إلى الناس بلوغ هذا المستوى العالي، فإلزامهم به ارهاق لهم وحرج شديد، والحرج في شرع الإسلام مرفوع لأنه يخالف نظرة الإسلام الواقعية، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج: ٧٨).وقال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة: ٢٨٦).
وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها، والمكروهات التي ترغب الشريعة في ترك المسلم لها.