ومن كرمه ما حُدّث به المأمون فكبر عنده واستحسنه وعجب من جوده وسعة صدره، فإنه بلغنا عن عمرو بن مسعدة قال: رفعت قصة إلى المأمون منسوبة إلى محمد بن عبد الله يمتّ فيها بحرمه ويزعم أنه من أهل النعمة والقدر وأنه مولى ليحيى بن خالد وأنه كان ذا ضيعة واسعة ونعمة جليلة وأن ضياعه قُبضت فيما قبض للبرامكة وزالت نعمته بحلول النقمة عليهم، فدفعها المأمون إلى ابن أبي خالد وأمره أن يضم الرجل إلى نفسه وأن يجري عليه ويحسن إليه، ففعل ذلك به وصاحت حاله وتراجع أمره وصار نديماً لابن أبي خالد لا يفارقه، فتأخر عنه ذات يوم لمولود ولد له، فبعث إليه فاحتجب عنه، فغضب عليه ابن أبي خالد وأمر بحبسه وتقييده وإلباسه جبة صوف، فمكث لذلك أياماً، فسأله المأمون عنه، فقص عليه قصته وعظم عليه جرمه وشكا ما يراه عليه من التيه والصلف والافتخار بالبرامكة والسمو بآبائهم، فأمره بإحضاره، فأُحضر في صوفه، فأقبل عليه المأمون بالتوبيخ مصغراً لقدره مسفهاً لرأيه وعظّم في عينه إحسان ابن أبي خالد إليه مع طعن على البرامكة ووضع منهم، فأطنب في ذلك، فقال محمد: يا أمير المؤمنين لقد صغّرت من البرامكة غير مصغّر ووضعت منهم غير موضوع وذممت منهم غير مذموم، ولقد كانوا شفاء أسقاهم دهرهم وغياث إجداب عصرهم، كانوا مفزعاً للملهوفين وملجأً للمظلومين، وإن أذن لي أمير المؤمنين حدثته ببعض أخبارهم ليستدل بذلك على صدق قولي فيهم ويقف على جميل أخلاقهم ومحمود مذاهبهم في عصرهم والأفعال الشريفة والأيادي النفيسة! قال: هات، قال: ليس بإنصاف محدّث مقيّد في جبة صوف، فأمر فأُخذ قيده، فقال: يا أمير المؤمنين ألم الجبة يحول بيني وبين الحديث، فأمر فخلع عليه، ثم قال: هات حديثك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، كان ولائي وانقطاعي إلى الفضل، فقال لي الفضل يوماً بمحضر من أبيه وأخيه جعفر: ويحك يا محمد إني أحب أن تدعوني دعوة كما يدعو الصديق صديقه والخليل خليله، فقلت: جلعت فداك! شأني أصغر من ذلك ومالي يعجز عنه وباعي يقصر عن ذلك وداري تضيق عنه ومُنّتي لا تقوم له، قال: دع عنك ذلك فلا بد منه، فأعدت عليه الاستعفاء، فرأيته جاداً في ذلك مقيماً عليه، وسألا ذلك وأعلماه قصور يدي عن بلوغ ما يجب ويشبه مثله، فقال لهما: لست بقانعٍ منه دون أن يدعوني وإياكما لا رابع معنا، فأقبل عليّ يحيى وقال: قد أبى أن يعفيك وإن لم يكن غيرنا فأقعدنا على أثاث بيتك فلا حشمة منا واطعمنا من طبيخ أهلك فنحن به راضون وعليه شاكرون، فقلت: جعلت فداك! إن كنت قد عرضت عليّ ذلك وأبيت إلا هتكي وفضيحتي فالأقل أن تؤجلني حتى أتأهب، فقال: استأجل لنفسك، فقلت: سنة، فقال: ويحك أمعنا أمان من الموت إلى سنة؟ فقال يحيى: أفرطت في الأجل، ولكني أحكم بينكما بما أرجو أن لا يرده أبو العباس واقبله أنت أيضاً، فقلت: احكم وفقك الله للصواب وتفضل عليّ بالاستظهار والفسح في المدة، فقال: قد حكمت بشهرين، فخرجت من عندهم وبدأت برمّ داري وإصلاح آلتي وشراء ما أتجمل به من فرش وأثاث وغير ذلك وهو في ذلك لا يزال يذكرني ويعدّ الأيام عليّ، حتى إذا كانت الجمعة التي يجب فيها الدعوة قال لي: يا محمد قد قرب الوقت ولا أحسبه بقي عليك إلا الطعام، قلت: أجل يا سيدي، فأمرت باتخاذ الطعام على غاية ما انبسطت به يدي ومقدرتي، وجاءني رسوله عشية اليوم الذي في صبيحته الدعوة فقال لي: إلى أين بلغت وهل تأذن بالركوب؟ قلت: نعم بكّر، فبكّر هو ويحيى وجعفر ومعهم أولادهم وفتيانهم، فلما دخلوا أقبل عليّ الفضل وقال: يا محمد إن أول ما أبدأ به النظر إلى نعمتك كلها صغيرها وكبيرها، فقم بنا إليها حتى أدور فيها وأقف عليها، فقمت معه وطاف في المجلس ثم خرج إلى الخزائن وصار إلى بيوت الشراب وخرج في الاصطبلات ونظر إلى صغير نعمتي وكبيرها ثم عدل إلى المطبخ فأمر بكشف القدور كلها وأبصر قدراً منها، فأقبل على أبيه وقال: هذا قِدرك الذي يعجبك ولست أبرح دون أن تأكل منه، ثم كره أن يأكل فيثلم عليّ في أكله ويفسد طعامه، فدعا برغيف فغمسه في القدر وناول أباه ثم فعل ذلك بأخيه ودعا بخلال، وخرج إلى الدار ووقف في صحنها مفنناً طرفه في فنائها وبنائها وسقوفها وأروقتها ثم أقبل عليّ وقال: من جيرانك؟ قلت: جعلت فداك! عن يميني فلان بن فلان التاجر، وعن شمالي فلان بن فلان الكاتب، وفي ظهر