هذي الأرامل قد قضَّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فبكى عمر ثم رفع رأسه وقال: ما حاجتك يا جرير؟ قال: حاجتي ما عوّدتني الخلفاء قبلك. قال: وما ذاك؟ قال: أربعمائة من الإبل برعاتها وتوابعها من الحملان والكسى. قال له عمر: أمن المهاجرين أنت؟ قال: لا. قال: فمن الأنصار؟ قال: لا. قال: فممن أنت؟ قال: من التابعين بإحسان. قال: إذاً نجري عليك كما نجري على مثلك. قال: فإني لا أريد ذاك. قال: فما أرى لك في بيت المال غيره. قال: إنما جئت أسألك من مالك! قال: فإن لي كسوة ونفقة وأنا أقاسمكهما. قال: بل أؤثرك وأحمدك يا أمير المؤمنين. فانصرف من عنده وهو يقول:
وجدت رُقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
ولبعض الشعراء في مثله:
إن حراماً قبول مدحته ... ومنع ما يرتجى من الصفد
كما الدنانير والدراهم في ال ... صرف حرام إلا يداً بيد
وقال: أبو نجدة في مثله:
فلما أن بلوناك ... ولم نلقك بالناشط
أطعنا فيك ميموناً ... فصورناك في الحائط
إذا لم تك نفّاعاً ... فأنت النازح الشاحط
سواء أنت في عيني ... بِجَي كنت أو واسط
وروي في الحديث قال: لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً.
ويقولون: الشحيح أعذر من الظالم، وأقسم الله جل وعز بعزته لا يساكنه في جنته بخيل.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يُغلق عليه، وقال الشاعر في ذلك:
ليس في كل ساعةٍ وأوان ... يتهيّا صنائع الإحسان
فإذا أمكنت تقدّمت فيها ... حذراً من تعذر الإمكان
وسئل بعض الحكماء: من أكيس الناس في زماننا؟ فقال: ابن أبي دواد حيث يقول فيه الشاعر:
بدا حين أثرى بإخوانه ... ففلل عنهم شباه العدم
وحذّره الحزم صرف الزمان ... فبادر قبل انتقال النعم
فليس وإن بخل الباخلو ... ن يقرع سناً له من ندم
ولا ينكت الأرض عند السؤال ... ليمنع سُوّاله عن نعم
ولكن ترى مشرقاً وجهه ... ليرتع في ماله مَن عدم
وفصلٌ لبعضهم في هذا المعنى: إن لأيام القدرة على الخير غنائم فاصطنعها ما دامت راهنة لديك وأنت منها متمكن قبل أن تنقضي عنك.
وفي المثل السائر في البخل: هو أبخل من قاذر. وهو رجل من بني هلال ابن عامر بلغ من بخله أنه سقى إبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلح فيه وقذر الحوض فسمي قاذراً، وذكروا أن بني فزارة وبني هلال تنافروا إلى أنس بن مدرك وتراضوا به، فقالت بنو هلال: يا بني فزارة أكلتم جلد الحمار! فقالت بنو فزارة: لم نعرفه. وكان سبب ذلك أن ثلاثة أنفار اصطحبوا، فزاري وثعلبي وكلابي، فصادوا حمار وحش، فمضى الفزاري في بعض حوائجه فطبخاه وأكلاه وخبيا للفزاري جلد الحمار، فلما رجع قالا له: قد خبأنا لك فكل، فأقبل يأكل ولا يسيغه، فجعلا يضحكان، ففطن وأخذ السيف وقام إليهما فقال لهما: إن أكلتماه وإلا قتلتكما، فامتنعا، فضرب أحدهما فأبان رأسه، وتناوله الآخر فأكل منه، فقال فيهم الشاعر:
نشدتك يا فزار وأنت شيخٌ ... إذا خيرت تخطيء في الخيار
أصيحانية أدمت بسمنٍ ... أحب إليك أم جلد الحمار
فقالت بنو فزارة: منكم يا بني هلال من سقى إبله فلما رويت سلح في الحوض وقذره بخلاً. فقضى أنس بن مدرك على الهلاليين وأخذ الفزاريون منهم مائة بعير. وكانوا تراهنوا عليها، وفي بني هلال يقول الشاعر:
لقد جلّلتْ خزياً هلال بن عامر ... بني عامرٍ طراً بسلحة قاذر
فأفّ لكم لا تدركوا الفخر بعدها ... بني عامرٍ أنتم شرار المعاشر
وفي المثل: هو أبخل من نار الحباحب، وهو رجل كان في الجاهلية من بخله أنه كان يسرج السراج فإذا أراد أحد أن يأخذ منه أطفأه فضرب به المثل.