وكان في الجاهلية رجل حسن الحال وكان بنو عمه وأخواله يختلفون إليه فيعطيهم ويمونهم ويقوم بأمورهم، ثم اختلّ أمره فأتاهم فحرموه، فأتى أهله كئيباً، فقالت له امرأته: ما حالك؟ فقال: دعيني عنك، وأنشأ يقول:
دعي عنك عذلي ما من العذل أعجب ... ولا بد حالٌ بعد حال تقلب
وكان بنو عمي يقولون مرحباً ... فلما رأوني مقتراً مات مرحب
كأن مُقلاً حين يغدو لحاجةٍ ... إلى كل من يلقى من الناس مذنب
وقال بعضهم: رب مغبوطٍ بميسرةٍ هي داؤه ومرحوم من عدم هو شفاؤه، والدنيا دول فما كان لك منها أتاك على ضعفك وما كان عليك لم تدفعه بقوتك، ومن عتب على الدهر طالت معتبته. وقال الأضبط:
إرض من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عيناً بعيشه نفعه
قال: وسمع سفيان الثوريّ قوماً يقولون بعضهم لبعض: كيف حالك؟ فقال: لقد بلغني أن من كان قبلكم كان يكره أن يسأل أخاه عن حاله إلا من يكون مجمعاً على تغيير سوء حاله إذا أخبره.
قال: وقال أوس بن حارثة: خير الغنى القنوع وشر الفقر الخضوع.
قيل: ومرّ رجل من الأغنياء برجل من أهل العلم فتحرك له وأكرمه، فقيل له: هل كانت لك إليه حاجة؟ قال: لا ولكن ذو المال مهيبٌ، وقال: فيه الشاعر:
أرى كل ذي مال يُجلّ لماله ... ومن ليس ذا مال يهان ويحقر
ويخذله الإخوان إن قل ماله ... وليس بمحبوب بلى هو يهجر
وأقنع بالمال القليل تكرماً ... لأغنى به عما لديك وأصبر
وذكروا أن زياد بن أبي سفيان أرق ذات ليلة وهو بالبصرة فبعث إلى غيلان بن خرشة الضبيّ وسويد بن منجوف السدوسي والأحنف بن قيس السعدي، فلما توافوا إليه قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ إنه كان عندي ثلاثة من دهاقين كسرى يحدّثون بما كانت الأكاسرة فيه من ملكها وعظيم شأنها، فتقاصر إليّ ما نحن فيه فبعثت إليكم لتصفوا لي ما كانت العرب فيه من البؤس وشدة الحال لنقنع بما نحن فيه فإن الغنى القناعة. قال غيلان: إن اقتصرت عليّ دون أصحابي حدثتك. قال: هات. قال: أخبرني عم لي صدوق أنه خرج في سنة أصابت العرب فيها شدةٌ حتى أكلوا القدّ من القحط واحمر أديم الأرض وآفاق السماء، قال: فطفت ثلاثاً ما أطعم فيهنّ شيئاً إلا ما يأكل بعيري من حشرات الأرض حتى أصابني الميد فشددت على بطني حجراً من الجوع، فإني لكذلك في جوف الليل إذ دفعت إلى حي عظيم فسلّمت. فقالوا: من هذا؟ قلت: طارق ليل يلتمس القرى. فقالوا: والله ما أبقت لنا هذه السنة قرىً ولا فضلاً. فقالت امرأة كانت إلى جانب القبة: يا عبد الله دونك القبة العظيمة فإن كان عند أحد خير فعندها. فأممتها فلما دفعت إليها سلمت فقال لي: من هذا؟ فقلت: طارق ليل يلتمس قرىً، فقال رجل منهم: يا فلان هل عندك قرى؟ قال: نعم، قد أبقيت في ضرع فلانة رسلاً لطارق ليل. ثم ثار إليها فناداها فانبعثت وتفاجّت عن مثل الظبي القنيص، فضرب زبونتها ثم حلب في علبةٍ معه حتى علتها رغوة اللبن، وكل ذلك بمرأى مني ومسمع، فلقد سمعت الغناء الحذّاء فما سمعت شيئاً كان أحبّ إلى مسامعي من صوت شخبها في تلك العلبة، ثم أقبل بها يريدني فلما أهويت لآخذها عثر فانكفأت العلبة وذهب ما فيها، فوالله لقد فقدت الأهل والمال فما أُصبت بشرّ كان أفزع لقلبي ولا أعظم موقعاً عندي من انكفاء تلك العلبة على مثل الحال التي كنت فيها، فلما رآني صاحب القبة ورأى ما بي من شدة الجهد خرج حتى دخل في إبله وهو يقول: صدق أخو بني قيس في قوله:
هم يطردون الفقر عن جارهم ... حتى يرى كالغصن الناضر
فأخذ ناقة كوماء فكشف عن عرقوبيها ثم قال: دونك السنام، فلما وافى الودك بطني وحفوف الماء ولا عهد لي قبل ذلك بشيء منه خررت مغشياً عليّ، فوالله ما أيقظني إلا برد السحر. فقال زياد: قطني قد اكتفيت بهذا، هذا والله غاية الجهد فالحمد لله الذي منّ علينا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وهدانا إلى الإسلام وجعلنا ملوكاً. ثم قال: لا أب لشانئك فمن الرجل؟ فقال: عامر بن الطفيل. فقال أبو علي: والله كان لها ولأمثالها.