وحدث محمد بن عبد الله الخراساني قال: حدثني المفضل الضبّي قال: سمعت المسيب بن زهير يقول: بينا المنصور يطوف بالبيت وأنا قدامه إذا رجل مستلم الركن فقلت له: تنحّ فقد جاء أمير المؤمنين، كرتين أو ثلاثاً، فلم يبرح حتى رمقه المنصور وسمعه وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور الجور والبغي والفساد في الأرض وما يحول بين المرء وقلبه من الطمع. فلما سمعه قال لي: يا مسيب عليّ بالرجل. فقلت له: أما إذ قد ابتليت بك فأجب. قال: حتى أتم طوافي. فلما أتم طوافه قلت له: أجب الآن فقد فرغت من طوافك، قال: حتى أصلي ركعتين. قلت: نعم فصلّ. فصلى ركعتين ثم أدخلته على المنصور، فلما رآه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! قال: وعليك السلام، ما هذا الكلام الذي سمعتك تلفّظ به آنفاً عند الركن؟ قال: أوسمعته يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: هو ذاك، ألست بان عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ألست الخليفة ما بقيت غاية إلا وقد بلغتها، أتطمع أن تنال ما عند الله جل وعز بما أنت فيه؟ قال: وفيما أنا؟ قال: أخبرك بما لا تقدر أن تدفعه. قال: وما هو؟ قال: عمدت إلى الطين فأوقدت عليه فصيرت منه الآجر قم عمدت إلى الرمل وأوقدت عليه فصيرت منه الجص وصيرت بعضه فوق بعض فبنيت لك منها الحصون المشيدة والقصور العالية ثم غلقت عليها أبواب الحديد فاحتجبت عن الناس أجمعين ثم أقعدت على الأبواب أقواماً عبدوك من دون الله.
فلما قال له ذلك استوى جالساً ثم قال: أنا! قال: نعم أنت، أما سمعت الله جل ذكره يقول: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ما صلّوا لهم ولا صاموا ولكنهم أمروهم فأطاعوهم في كل ما أرادوا ولم يخالفوهم، فكانت تلك ربوبتهم؟ ثم اتخذت بطانة يسيرة وقلت لا يدخل عليّ فلان وفلان، فرفع أولئك إليك من أمور المسلمين ما هان عليهم وخف عليك، فإذا جاء المظلوم إلى الباب لم يصل إليك فصار إلى بعض من يصل إليك فقال ارفع قصتي هذه إلى أمير المؤمنين، قال: نعم، فدفعها إليه فإذا هو يتظلم من بعض من يصل إليك، فأرسل إليه الظالم الذي ظلم صاحب القصة: والله لئن رفعت قصة فلان إلى أمير المؤمنين لأرفعن قصة فلان الذي ظلمته في كذا وكذا، فأمسك القصة ولم يرفعها، فعند ذلك اقتطعت حقوق الناس دونك وأنت محصور في قصرك تظن أنك في شيء أو على شيء والناس وراء بابك يقتلون ويؤكلون.
والله لقد دُفعت إلى جزيرة من جزائر البحر وإذا ملك تلك البلاد مشرك وصنمه في كمه وتسمى البلاد الصين فرأيته ذات يوم وهو يبكي في مجلسه، فقام إليه وجوه مملكته فقالوا: ما يبكيك أدام الله ملكك وأعزك أيها الملك، أليس قد مكن الله لك، أليس قد مهد الله لك؟ قال: أبكي الصمم قد اعتراني أخاف أن لا أسمع صوت مظلوم وصارخ بالباب، ألا وقد آليت عليكم أن لا يركب منكم الفيل ولا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم حتى أعرفه. قال: فلقد والله رأيته يركب بالغداة والعشي يتصفح الوجوه هل يرى مظلوماً فينصفه، فهذا لا يعرف الله جل وعز ولا يريد بذلك رفعة عند الله جل وعز ولا زلفى لديه ولا رجاء ثواب ولا مخافة عقاب ولكن شفقةً على ملكه وخوفاً من أن ينتشر عليه أمره فيخاف أن يذهب ملكه، وهو مشرك يفعل هذا ويتفقده من نفسه ورعيته، وأنت ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكنت أولى بهذا الفعل من ذلك المشرك! قال: صدقت قد عرفت الذي قلت وفهمت ما وصفت والأمر على ما ذكرت، ولكن كيف أصنع وقد بليت بأمر الأمة ودعوت الفقهاء فلاناً وفلاناً على أن أستعين بهم على ما أنا فيه فهربوا مني؟ قال: إنهم لم يهربوا منك ولكن لم يعلموا أنك تريدهم للعمل بالحق وكان العمل معك ومعونتك أوجب عليهم من الصلاة والصيام والحج والنوافل ولكنهم هربوا خوفاً على أبدانهم من عذاب الله وذلك أنهم تخوفوا أن تحملهم على مثل رأيك. قال المنصور: فهذا عمي عيسى بن علي الضامن عليّ أنك إن تأتيني بهم أطلقت أيديهم في إنصاف الناس ولا أخالف أمرهم. فقال الرجل: أكذا يا عيسى أنت الضامن على ما قال الخليفة؟ قال: نعم. قال: الله، حتى قالها ثلاثاً. قال: وأقيمت الصلاة فافترقنا، فلما صلينا طلب الرجل فلم يوجد فكانوا يرون أنه الخضر، عليه السلام، أو ملك أرسل إليه.