للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وحكي عن الحجاج قال: حججت فنزلت ضرية فإذا أعرابي قد كور عمامته على رأسه وتنكب قوسه وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر فخذوا من ممركم لمقركم ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، أما بعد فإنه لم يستقبل أحد يوماً من عمره إلا بفراق آخر من أجله، فاستصلحوا لأنفسكم ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه وراقبوا من ترجعون إليه، فإنه لا قوي أقوى من خالق ولا ضعيف أضعف من مخلوق ولا مهرب من الله إلا إليه، وكيف يهرب من يتقلب في يدي طالبه، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.

وقال بعض الأعراب: إن الموت ليقحم على الشيب تقحّم الشيب على الشباب، ومن عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يحزن فيها على بلوى، ولا طالب أغشم من الموت، ومن عطف عليه الليل والنهار أردياه، ومن وكل به الموت أفناه.

وقال أعرابي: كيف تفرح بعمرٍ تنقصه الساعات وسلامة بدنٍ معرّض للآفات؟ ولقد عجبت من المؤمن يفر من الموت وهو سبيله إلى الثواب، ولا أرى أحداً إلا سيدركه الموت وهو منه آبق.

وقال عتيق بن عبد الله بن عامر بن الزبير: كنت عند سليمان بن عبد الملك فدخل عليه عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين بالباب أعرابي له حزم ودين ولسان. فقال: يؤذن له. فلما دخل قال له سليمان: تكلم. قال: يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب. قال: يا أعرابي إنا لنحتمل عمّن لا ينصح وأنت الناصح جيباً والمأمون غيباً. فقال: أما إذ أمنت بادرة غضبك فإني سأطلق من لساني ما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله جل ذكره، وحق إمامتك يا أمير المؤمنين إنه قد تكنّفك قوم قد أساؤوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، حربٌ للآخرة سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله جل وعز فإنهم لا يألون للأمانة تضييعاً وللأمة خسفاً وعسفاً، وأنت مسؤول محاسب على ما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً بائع آخرته بدنيا غيره! فقال سليمان: يا أعرابي إن لسانك لأقطع من سيفك! قال: أجل يا أمير المؤمنين هو لك لا عليك. فقال له: هل لك حاجة في ذات نفسك؟ قال: لا حاجة لي في شيء خاص دون عام.

<<  <   >  >>