للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقال: والله لقد أحسن وأجاد. ودعا بالدواة فما أدري ما يكتب ثم قال: يا نضر كيف تقول من الإتراب؟ قلت: أقول اترب القرطاسَ والقرطاسُ متروب. قال: فلم كسرت الألف؟ قلت: لأنها ألف وصل تسقط في التصغير. قلت: فكيف تقول من الطين؟ قلت: طِن الكتاب والكتابُ مطينٌ. قال: هذه أحسن من الأولى. ثم دفع ما كتب إلى خادم ووجهه معي إلى ذي الرياستين الحسن بن سهل، فقال لي ذو الرياستين: ما الذي جرى بينك وبين أمير المؤمنين؟ فقد أمر لك بخمسين ألف درهم. فقصصت عليه القصة. فقال ويحك لحّنت أمير المؤمنين. قلت: معاذ الله بل لحّنت هشيماً لأنه كان لحّانة، فوقّع لي أيضاً من عنده بثلاثين ألف درهم فانصرفت بثمانين ألف درهم في حرف واحد سِداد وسَداد.

قال أبو سعيد الضرير: سمعت ابن الأعرابي يقول: بعث إليّ المأمون فصرت إليه وإذا هو مع يحيى بن أكثم يطوفان في حديقة، فلما نظر إليّ ولاني ظهره فجلست فلما أقبل قمت قائماً فأسرّ إلى يحيى بشيء ما فهمت كله إلا ما قال: ما أحسن أدبه! وقد أقبل إلى مجلسه ثم التفت إليّ فقال: يا محمد بن زياد من أشعر العرب في وصف الخمر؟ فقلت: الذي يقول:

تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق

فقال: أحسن الناس قولاً في صفة الخمر الذي يقول:

فتمشّت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم

فعلت في البيت إذ مُزجت ... مثل فعل الصبح في الظلم

فاهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السفر بالعلم

قلت: فائدة أمير المؤمنين. ثم قال: ما معنى قول هند:

نحن بنات طارق ... نمشي على نمارق

إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

ففكرت في نسبها ونسب أبيها فلم أجد طارقاً فقلت: ما أعرف طارقاً يا أمير المؤمنين. فقال: إنما قالت إنها في العلو والشرف بمنزلة الطارق وهو النجم، من قول الله، عز وجل، والسماء والطارق، قلت: فائدة يا أمير المؤمنين ثانية. ثم التفت إلى يحيى بن أكثم فقال: أنا بؤبؤ هذا الأمر وابن بؤبئه. فلم أدر ما قال وقمت لأخرج. فلما نظر إليّ وقد قمت رمى إليّ بعنبرة كانت في يده بعتها بخمسة آلاف درهم، قال: فرجعت إلى كتبي فنظرت فيها لأعرف ما قال فوقعت على هذه الأبيات لبعض الأعراب:

كأنما بنت أبي المحيريه ... قاعدةٌ في إتبها لُؤيليه

قد فاقت البؤبؤ والبؤيبيه

فعملت أنه عنى السيد وابن السيد.

قال أبو عبد الله الأسواري: دخلت على المأمون في حديقة له وفي يده مقراص ذهب وهو يقرص به ما طال من أوراق تلك الروضة ويقوّم ما بدا من أغصانها، فسلمت وقلت: يا أمير المؤمنين، جعلت فداك، إنك لمستهتر بهذه الحديقة حتى إنك لا تأمن عليها أحداً. قال: نعم يا أسواري فهل يحضرك في ذلك شيء؟ قلت: نعم، وأنشدته:

أوائل رسلٍ للربيع تقدمت ... على طيب وجه الأرض خير قدوم

فراقت لها بعد الممات حدائقٌ ... كواسٍ وكانت مثل ظهر أديم

إذا اقتصها طرف البصير بلحظةٍ ... توهّمها مفروشةً برقوم

كأن اخضرار الزهر والروض طالعٌ ... عليه سماءٌ زينت بنجوم

تردت بظلٍّ دائمٍ فتضاحكت ... كضحك بروقٍ في بكاء غيوم

وأوردها فحل السحاب عرائساً ... ضعاف القوى من مرضعٍ وفطيم

إذا برزت منهن بكرٌ حسبتها ... تراك وإن أضحت بعين سقيم

كمثل نشاوى الراح يلثم ذاك ذا ... أو الريح جادت بينها بنسيم

تخال وقوع الطل فيهن أدمعاً ... رنت بعيونٍ غير ذات سجوم

قال: أحسنت يا أسواري، يا غلام اسقنا على هذا. ثم جلس على كرسي مغشّىً بالحرير وإذا غلام قد أقبل يهتز كأنه القضيب المائل حين اخضر شاربه وبدا عذاره وفي يده كأسٌ وإبريق فصبّ في الكأس من الإبريق ثم مزجه وناوله إياه، فأخذه في يده ساعة وجعل ينظر إلى الغلام ما يرد بصره عنه، ثم قال: يا أسواري هل يحضرك في صفة مثل هذا شيء؟ قلت: نعم يا سيدي، وأنشدته:

ثجاج مزنٍ شجّ كأس رحيق ... ريق المهفهف فيه أعذب ريق

<<  <   >  >>