للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم قلت: يا أمير المؤمنين زرع زكا أصله وطاب مغرسه وتمكنت عروقه وعذبت مشاربه، غذاهما ملك أعز نافذ الأمر واسع العلم عظيم الحلم والقدر، علاهما فعليا، وحكّمهما فتحاكما، وعلمهما فتعلما، فهما يطولان بطوله ويستضيئان بنوره وينطقان بلسانه، ويتقلبان في سعادته، فما رأيت أحداً من أبناء الخلفاء أذرب منهما لساناً، ولا أعذب كلاماً، ولا أحسن ألفاظاً، ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا ورويا، فاسأل الله أن يزيدهما بالإيمان تأييداً وعزاً، ويمتع أمير المؤمنين بهما ويمتعهما بدوام قدرته وسلطانه ما بقي ليل وأضاء نهار.

فضمهما إلى صدره وجمع يديه عليهما فلم يبسطهما حتى رأيت دموعه تتحادر على صدره رقةً وإشفاقاً، ثم أمرهما بالخروج.

قال: ثم أقبل علينا وقال: كأنكم بهما وقد نجم القضاء ونزلت مقادير السماء وبلغ الكتاب أجله وانتهى الأمر إلى وقته المحدود وحينه المسطور الذي لا يدفعه دافع ولا يمنع منه مانع، وقد تشتت أمرهما وافترقت كلمتهما وظهر تعاديهما وانقطعت الرقة بينهما حتى تسفك الدماء وتكثر القتلى وتهتك ستور النساء وتمنى كثير من الأحياء أنهم بمنزلة الموتى. قلت: يا أمير المؤمنين أوكائن ذلك؟ قال: نعم. قلت: لأمر رأيته أو رؤيا أريته أو لشيء تبين لك في أصل مولدهما أم لأثر وقع لأمير المؤمنين في أمرهما؟ قال: بل أثر واجب صحيح حملته العلماء عن الأوصياء وحملته الأوصياء عن الأنبياء، عليهم السلام.

قال: وحدث الأصمعي أنه دخل ذات يوم على أمير المؤمنين الرشيد وكان لا يحجب عنه وكان في فرد رجليه خفّ وفي الأخرى جورب لعلة كان يجدها، فسامره ساعة ثم نهض ليخرج فقال له الرشيد: يا أصمعي ماذا تشتهي أن يتخذ لك ليتقدم فيه وتتغدى معنا؟ فقال: أشتهي رقاقاً وجوزلاً شخصاً. فلم يعرف الرشيد ما قاله الأصمعي وكره أن يسأله عنه فتقدم إلى الطباخ أن يتبعه ويسأله من تلقاء نفسه ويوهمه أنه تقدم إليه فيه فلم يعرفه، فقال له: الرقاق معروف والجوزل الفرخ السمين. فمضى الطباخ وعرف الرشيد ذلك وأصلح للأصمعي ما طلبه وعاد فتغدى مع الرشيد. فلما أكل أمر بأن يحمل معه عشرون ألف درهم.

وحدث الأصمعي قال: دخلت ذات يوم على الرشيد فقال لي: اكتب يا أصمعي ولو على تِكّتك أو طرف ثوبك:

كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم

وكلما زادك في نعمةٍ ... زاد الذي زادك في الغم

قال: فكتبت البيتين.

قال وقال الأصمعي: بينا أنا ذات يوم قد خرجت في الهاجرة والجو يلتهب ويتوقد حراً إذ أبصرت جارية سوادء قد خرجت من دار المأمون ومعها جرة فضة تستقي فيها ماء وهي تردد هذا البيت بحلاوة لفظ وذرابة لسان:

حرُّ وجدٍ وحرُّ هجرٍ وحرُّ ... أي عيشٍ يكون من ذا أمرُّ

قال فقلت لها: يا جارية ما شأنك؟ فقالت: إني من دار أمير المؤمنين المأمون وأنا أحب عبداً له أسود وإنه قد هجرني ولا أحسن أن أخرج سري إلى أحد.

قال: فمضيت واستأذنت على المأمون، وإذا هو نائم فأذن لي، وقد كان أمر أن لا أحجب عنه على أي حال كان. فدخلت عليه وهو في مرقده فقال: ما جاء بك يا أصمعي في هذا الوقت؟ قلت: يا أمير المؤمنين تهب لي جاريتك السوداء وعبدك الأسود فلاناً؟ فقال: قد فعلت ذلك وهما لك افعل بهما ما شئت. فخرجت من عنده وأحضرتٌهما وجمعت من أهل الدار من حضر وأعتقتهما وزوجت الجارية من العبد ثم عدت إلى المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين إني فعلت كيت وكيت وإني أريد الآن ما أجهزهما به. فأمر لكل واحد منهما بعشرة آلاف درهم وأمر لي بمثل ذلك وخرجت من عنده وعاد هو إلى نومه.

وحدثنا عبد الله بن سلام قال: لما ولد العباس بن الفضل دخل الناس على الفضل بن يحيى يهنئونه به وفيهم أبو النضير، فوقف بين يديه وهو يقول:

ويفرح بالمولود من آل برمكٍ ... بغاة الندى والسيف والرمح والنصل

وتنبسط الآمال فيه لفضله ... .. . . . . . . .

فأُرتج عليه فوقف لا يمكنه أن يجيزه. فقال له الفضل: يا أبا النضير تمم، قال: أعز الله الأمير. قال: ويحك فقل:

.. . . . . . . . . . ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل

قال: هذا والله، أصلح الله الأمير، طلبته فلم أقدر عليه وتعللت بغيره.

<<  <   >  >>