قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الرجل من العرب إذا دخل خيبر أكبّ على أربع وعشر تعشير الحمار، وهو أن ينهق عشر نهقات متتابعات، يفعل ذلك ليدفع عن نفسه حمّى خيبر. ثم أنشدني في قول الآخر:
أجاعلٌ أنت بيقوراً مضرّمةً ... ذريعةً لك بين الله والمطر
قلت: نعم، كانت العرب إذا أبطأ المطر تشد العشر والسلع، وهما ضربان من النبت، في أذناب البقر وألهبوا فيه النار وشردوا بالبقر تفاؤلاً بالبرق والمطر، ثم أنشدني:
لعمرك ما لام الفتى مثل نفسه ... إذا كانت الأحياء تعدى ثيابها
وآذن بالتصفيق من ساء ظنه ... فلم يدر من أي اليدين جوابها
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الرجل إذا ضلّ في المفازة قلب ثيابه وصاح كأنه يوميء إلى إنسان ويشتد شدة ويصفق بيديه فيهتدي الطريق. ثم أنشدني:
قوداء تملك رحلها ... مثل اليتيم من الأرانب
قلت: نعم، يقول: هذه ناقة مثل اليتيم من الاكام، واليتيم الواحد من كل شيء، والأرانب الاكام. ثم أنشدني لآخر أيضاً:
إلى الله أشكو هجمةً هجريةً ... تعاورها مرُّ السنين العوابر
فعادت رذايا تحمل الطبن بعدما ... تكون قرىً للمعتفين المفاقر
قلت: هذا رجل في بستانه نخيل أتى عليها الدهر فجفّت فقطعها وصيرها أجذاعاً وسقّف بها البيوت، فقال: هذه الأجذاع كانت تحمل الرطب، فأُكل وأطعم الأضياف فجفّت فقطعتها وسقّف بها البيوت فهي تحمل الطين، يعني ما فوقها من اللبن والتراب وغير ذلك. ثم أنشدني لرجل آخر:
وسربٌ ملاحٍ قد رأيت وجوههم ... إناثٌ أدانيه ذكورٌ أواخره
يعني الأضراس، ثم أنشدني لآخر:
فإني إذاً كالثور يضرب جنبه ... إذا لم يعف شرباً وعافت صواحبه
قلت: نعم، كانت العرب إذا أودت البقر الماء فشربت الثيران وأبت البقر ضربت الثيران حتى تشرب البقر، وهو كما قال: كالثور يُضرب لما عافت البقر. ثم أنشدني:
ومنحدرٍ من رأس برقاء حطه ... مخافة بينٍ أو حبيبٌ مزايل
قلت: نعم، يعني الدموع، والبرقاء العين لأن فيها سواداً وبياضاً، حطه أسأله، حبيب محبوب، مزايل مفارق. قال فوثب الرشيد فجذبني إلى صدره وقال: لله در أهل الأدب! ثم دعا بجارية فقال لها: احملي إلى منزل الكسائي خمس بدر على أعناق خمسة أعبد يلزمون خدمته، ثم قال: استنشدهما، يعني ابنيه، فأنشدني محمد الأمين:
وإني لعفُّ الفقر مشترك الغنى ... وتارك شكلٍ لا يوافقه شكلي
وشكلي شكلٌ لا يقوم بمثله ... من الناس إلا كلُّ ذي نيقةٍ مثلي
ولي نيقةٌ في المجد والبذل لم يكن ... تأنقها فيما مضى أحدٌ قبلي
وأجعل مالي دون عرضي جُنّةً ... لنفسي وأستغني بما كان من فضلي
وأنشدني عبد الله المأمون:
بكرت تلومك مطلع الفجر ... ولقد تلوم بغير ما تدري
ما إن ملكت مصيبةً نزلت ... إذ لا يُحكّم طائعاً أمري
ملك الملوك عليّ مقتدرٌ ... يعطي إذا ما شاء من يسر
فلرب مغتبطٍ بمرزئةٍ ... ومفجّعٍ بنوائب الدهر
ومكاشح لي قد مددت له ... نحراً بلا ضرعٍ ولا غمر
حتى يقول لنفسه لهفاً: ... في أي مذهب غايةٍ أجري
وترى قناتي حين يغمزها ... غمز الثقاف بطيئة الكسر
فقال: يا علي فكيف تراهما؟ فقلت:
أرى قمري أفقٍ وفرعي بشامةٍ ... يزينهما عرقٌ كريمٌ ومحتد
يسدان آفاق السماء بشيمةٍ ... يؤيدها حزمٌ وعضبٌ مهند
سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقى النبي محمد