قال: فتبسم المأمون وقال: أحسنت والله يا أسواري، فلمن هذا ويحك؟ قلت: لعبدك النظّام. فقال: أحسن فيما وصف وأحسنت في تعبيرك عنه. ثم سقاني وأمر لي بخمسين ألف درهم وأمر للنظام بمثلها.
أحمد بن القاسم قال: كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون وهو مستلقٍ على قفاه فقال لعبد الله: يا أبا العباس من أشعر الناس في زماننا؟ فقال: أمير المؤمنين أعرف بهذا مني. قال: على حالٍ. قال الذي يقول:
أيا قبر معنٍ كنت أول حفرةٍ ... من الأرض خطّت للمكارم أجمعا
قال أحمد: فقلت أشعرهم الذي يقول:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
فقال المأمون: أين أنتما عن قول أبي نواس:
يا شقيق النفس من حكمٍ ... نمت عن ليلي ولم أنم
قال: وقال المأمون لعبد الله بن طاهر في الحلبة وقد ارتفعت أصوات العامة: يا أبا العباس سكّن العامة. قال عبد الله: فوثتب أنا ومن معي فارتفع من أصواتنا وضجيجنا أكثر مما كان، فقال لي: أتدلّ بالرياسة ولا بصر لك بالسياسة، هكذا تسكّن العامة؟ هلا ناديت الأقربين لينادي الأقربون الأبعدين! قال: فوالله ما ميزّت بين تأديبه وبين نغرانه.
قال: وقال الحسن بن الفضل بن الربيع: خرج علينا المهديّ متنكراً ومعه الربيع والمسيّب بن زهير يطوف في الأسواق إذ نظر إلى أعرابي ينشد فقال الربيع: أخبرني عن أرق بيت قالته العرب، قال: بيت امريء القيس بن حجر:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلبٍ مقتّل
فقال المهدي: بيت قد داسته العامة وفيه غلطٌ. ثم قال للمسيب: هات ما عندك. فقال:
ومما شجاني أنها يوم أعرضت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرةٍ ... إليّ التفاتاً أسلمتها المحاجر
وسلمتها أيضاً. فقال: وإن هذا قريبٌ من ذاك. وخلفهم شابّ من أهل المدينة له أدب وظرف وقدم متظلماً فطال مقامه على باب المهدي، فلما سمع ذلك منهم حمله ظرف الأدب على أن أدخل نفسه بينهم واتصل بهم وقال: أتأذنون أن أخوض معكم فيما أنتم فيه؟ قالوا: ماذا؟ قال قال الأحوص:
إذا قلت إني مشتفٍ بلقائها ... فحمُّ التلاقي بيننا زادني وجدا
فقال المهدي: أحسنت يا فتى، فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أهل المدينة. قال: وما أقدمك العراق؟ قال: مظلمة لي أنا مقيم عليها بباب الخليفة منذ كذا وكذا وقد أضرّ بي ذلك. فقال للربيع: عليك بالرجل. فأخذه معه وسامره أياماً ثم أمر بردّ مظلمته وقضى حوائجه وأمر له بصلة عشرة آلاف درهم.
قال النضر بن شميل: حدثني الفرّاء عن الكسائي قال: دعاني الرشيد ذات يوم وما عنده إلا حاشيته فقال: يا علي أتحب أن ترى محمداً وعبد الله؟ قلت: ما أشوقني إليهما يا أمير المؤمنين وأسرّ إليّ معاينة نعمة الله جل وعز على أمير المؤمنين فيهما وبهما، فأمر بإحضارهما، فأقبلا كأنهما كوكبا أفقٍ يزينهما هديهما ووقارهما، قد غضا أبصارهما وقاربا خطوهما، حتى وقفا بباب المجلس فسلما بالخلافة ثم قالا: تمم الله على أمير المؤمنين نعمه وشفعها بشكره وجعل ما قلّده من هذا الأمر أحمد عاقبة ما يؤول إليه أمر حمداً اختصه به وأخلصه له بالبقاء وكثّره لديه بالنماء ولا كدّر عليه منه ما صفا ولا خالط مسروره الردى، فقد صرت للمسلمين ثقة ومستراحاً إليك يفزعون في أمورهم ويقصدون في حوائجهم، فأمرهما بالدنو وصيّر محمداً عن يمينه وعبد الله عن يساره ثم التفت إلي ّفقال: يا علي ما زلت ساهراً مفكراً في معاني أبيات قد خفيت عليّ. قلت: إن رأي أمير المؤمنين أن ينشدنيها؟ فأنشدني:
قد قلت قولاً للغراب إذ حجل ... عليك بالقود المسانيف الأول
تغدّ ما شئت على غير عجل
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن العير إذا فصلت من خيبر وعليها التمر يقع الغراب على آخر العير فيطردها السواق، يقول هذا: تقدم إلى أوائل العير فكل على غير عجل، والقود الطوال الأعناق، والمسانيف المقدمة. ثم أنشدني:
لعمري لئن عشّرت من خشية الردى ... نهاق الحمار إنني لجهول