وحدثنا خصيف بن الحارث عن أبي رجاء قال: قدم مع المأمون رجل من دهاقين الشاش وعظمائهم على عدة سلفت من المأمون له من توليته بلداً وأن يضم إليه مملكته، فطال على الرجل انتظار خروج المأمون وأمره له بذلك، فقصد عمرو بن مسعدة وسأله إنفاذ رقعة إلى المأمون من ناحيته. فقال عمرو: اكتب ما شئت فإني أوصله. قال: فتول ذلك عني يكن لك عليّ نعمتان. فكتب عمرو: إن رأى أمير المؤمنين أن يفك أسر عبده من ربقة المطل بقضاء حاجته أو يأذن له في الانصراف إلى بلده فعل إن شاء الله تعالى. فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عمراً فجعل يعجبه من حسن لفظها وإيجاز المراد فيها. قال عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟ قال: الكتاب له في هذا في الوقت بما سأل لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه وبجائزة مائة ألف درهم صلة عن دناءة المطل وسماجة الإغفال. ففعل عمرو ذلك.
وحدثنا إسماعيل بن أبي شاكر قال: لما أصاب أهل مكة سنة ثمان ومائتين السيل الذي شارف الحجر ومات تحت هدمه خلق كثير كتب عبد الله بن الحسن العلوي وهو والي الحرمين إلى المأمون: يا أمير المؤمنين إن أهل حرم الله وجيران بيته وألّاف مسجده وعمرة بلاده قد استجاروا بفيء معروفك من سيل تراكمت أحداثه في هدم البنيان وقتل الرجال والنسوان واجتياح الأموال وجرف الأمتعة والأثقال، حتى ما ترك طارفاً ولا تالداً يرجع إليهما في مطعم وملبس، قد شغلهم طلب الغذاء عن الاستراحة إلى البكاء على الأمهات والأولاد والآباء والأجداد، فأجرهم يا أمير المؤمنين بعطفك عليهم وإحسانك إليهم تجد الله مكافئك عنهم ومثيبك عز الشكر لك منهم. قال:: فوجه إلهيم المأمون بالأموال الكثيرة. وكتب إلى عبد الله: أما بعد فقد وصلت شكيتك لأهل حرم مكة إلى أمير المؤمنين فتلافاهم الله بفضل رحمته وأنجدهم بسيب نعمته وهو متبع ما أسلفه إليهم بما يخلفه عليهم عاجلاً وآجلاً إن أذن الله جل وعز في تثبيت عزمه على صحة نيته فيهم. قال: فكان كتابه هذا أسرّ إلى أهل مكة من الأموال التي أنفذها إليهم.
قال أحمد بن يوسف: دخلت على المأمون يوماً ومعه كتاب يعجب به كتبه إليه عمرو بن مسعدة، فالتفت إليّ وقال: أحسبك مفكراً فيما رأيت. قلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين المكروه. قال: إنه ليس بمكروه ولكني قرأت كلاماً نظير الخبر خبرني به الرشيد، سمعته يقول: البلاغة التقرب من معنى البغية والتباعد من حشو الكلام ودلالة بالقليل على الكثير، فلم أتوهم أن هذا الكلام يسبك على هذه الصيغة حتى قرأت هذا الكتاب، والله لأقضين حق هذا الكلام، وكان الكتاب استعطافاً على الجند فيه كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من أجناده وقواده في الطاعة والموالاة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند، وقد تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم. قال: فأمر بإعطائهم لثمانية أشهر.
قال: ولما بعث طاهر بن الحسين برأس محمد الأمين كتب إليه: آتى الله أمير المؤمنين من شكره ما يزيد به في نعمته عليه وأياديه لديه، فقد كان من قدر الله جل وعز في إعانة أمير المؤمنين على الظفر بحقه وسلامة الأولياء ووفاة محمد بن الرشيد ما لا دافع له من القضاء في الخلق والاستبداد بالأمر لنفوذ مشيئته فيما أحب من إعزاز وإجلال وموت وحياة، فليهنيء أمير المؤمنين فوائد تطوّل الله عليه وليعزه عن أخيه الرضى بما يؤول إليه أهل الأرض والسماء من الانقراض والفناء. فكان المأمون يقول: والله لسروري بتعزيته أوقع بقلبي من تهنئته.
قال: وكتب إليه الفضل بن سهل: أما بعد فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة فقد فرّق الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة لقول الله جل وعز فيما اقتص علينا من نبإ نوح حيث يقول: إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح، ولا صلة لأحد في معصية الله ولا قطيعة فيما كانت القطيعة في ذات الله. وكتبت إلى أمير المؤمنين: وقد قتل الله جل وعز المخلوع ورداه رداء نكثه وعجّل لأمير المؤمنين ما كان ينتظر من وعده، فالحمد لله الذي رد إلى أمير المؤمنين معلوم حقه، وكبت المكايد له في خفر عهده ونقض عقده حتى رد بذلك أعلام الدين إلى سبيلها بعد دروسها والسلام.